من الهلكة الدائمة في الآخرة. ثم هي بعد بها قوام إنسانيته و تكامل شخصيته، و إذا تجرد عنها كان في عداد البهائم السائمة التي همّها علفها و شغلها تقممها. بل قد يزيد عليها انحطاطا و وحشية.

و كلما طالت المدة و كثر العدد زادت المشاكل و تعقدت في مضاعفات خطيرة لا يعلم مداها إلا اللّه تعالي، فإنا للّه و إنا إليه راجعون، و الحمد للّه الذي لا يحمد علي مكروه سواه، و هو أرحم الراحمين و ولي المؤمنين.

و ترك الأمر في ذلك للواقع القائم هناك و لطبيعة التفاعل بينه و بين الوجود الإيماني الوافد قد يؤدي بالآخرة إلي انصهار المؤمنين في تلك المجتمعات، و ضياعهم فيها، و اضمحلال وجودهم، و شخصيتهم، بتجردهم عن دينهم، و مثلهم،

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 7

و أخلاقهم، و هي مصيبة كبري لا تعدلها مصيبة، ينبغي تظافر الجهود من أجل دفعها و الوقاية منها.

و من ثم بدأت الشكاوي و الاستغاثات و الأسئلة و الاستفتاءات ترد علينا في محاولة لعلاج تلك المشاكل و الخروج منها بالحلول المناسبة، للحفاظ علي الموازين الشرعية، و التشبث بالمثل الشريفة، و الأخلاق الفاضلة، التي كانت مهمة الإسلام و جميع الأديان السماوية رعايتها، و التأكيد عليها.

و قد سبق منا أن وجهنا إلي إخواننا المغتربين من المؤمنين رسالة، عالجنا فيها بعض تلك المشاكل و قد طبعت في وقتها، و ألحق بها عدد من الاستفتاءات التي تخص المغتربين و الواقع الذي يعيشونه، كنا قد أجبنا عليها، و أوضحنا الحكم الشرعي في الوقائع التي تضمنتها.

غير أن الأمر- فيما يبدو- أشدّ و أعقد من أن يفي به ذلك، و لا بد من جهد أوسع، و عمل أشمل، لتشعب تلك المشاكل و تعقدها

علي طول المدة، و تمادي الزمن، و حدوث المضاعفات الخطيرة، و الإفرازات السلبية، نتيجة التناقض الحاد بين المجتمعات الكافرة، و ما يهمّ المؤمن من التعاليم الدينية، و الأحكام الشرعية، المستوعبة لجميع مرافق الحياة، و المفاهيم السامية في المثل و الأخلاق و السلوك.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 8

و يتمثل العمل المذكور في جمع أكبر عدد من الاستفتاءات و الأسئلة التي تخص المغتربين، أو يكثر ابتلاؤهم بها، و الإجابة عليها بالاقتصار علي بيان الحكم الشرعي، أو مع الإرشاد و التوجيه، حسبما يقتضيه المقام، ثم تصنيفها علي أبواب الفقه المختلفة و بعض العناوين العامة المناسبة للبيئة التي تحيط بالمغتربين. و تقديم ذلك بخطاب مع المغتربين يتضمن نصائح و إرشادات عامة بما يتناسب مع وضعهم، في محاولة لدرء المخاطر عنهم، و حفظ شخصيتهم، و كيانهم في العقيدة و الدين، و المثل السامية، و الأخلاق و السلوك الأفضل. و قد جارينا في بعضه ما ذكرناه في رسالتنا للمغتربين التي أشرنا إليها.

و نسأل اللّه سبحانه و تعالي أن يمدنا بالعون و التسديد في ذلك، عسي أن نؤدي به خدمة لإخواننا و أبنائنا المغتربين تعينهم في محنتهم، و تضي ء لهم الطريق في مسيرتهم، إنه أرحم الراحمين، و ولي المؤمنين، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

محمد سعيد الطباطبائي الحكيم النجف الأشرف 1422 ه

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 9

المعشر الذين عشتم معهم، و أنستم بهم، و هجرتم دياركم و بلادكم التي أحببتموها و أحبتكم، و تركتم أجواءكم و مجتمعاتكم التي ألفتموها و ألفتكم، و عانيتم وحشة الاغتراب، و مشاكل التشتت و التشريد.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 12

إلا أن لكم أسوة بنبيكم العظيم، و آله الطاهرين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، و أوليائهم المخلصين، حيث استهدفتهم الدنيا بمحنها و بلائها و مصائبها و أرزائها

مشردون نفوا عن عقر دارهم كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر

و تلك سنة اللّه تعالي في الدنيا، حيث اختص أولياءه فيها بالبلاء و العناء، حتي صارت الدنيا لهم سجنا، كما ورد في أحاديث كثيرة. و قد قال عز من قائل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّٰا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسٰاءُ وَ الضَّرّٰاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّٰي يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتيٰ نَصْرُ اللّٰهِ أَلٰا إِنَّ نَصْرَ اللّٰهِ قَرِيبٌ «1».

كما تظافرت الأحاديث الشريفة بمحنة المؤمنين، و تعرضهم للبلاء، خصوصا في عصر غيبة قائم آل محمد صلي اللّه عليه و آله و سلّم الحجة المنتظر (عجل اللّه فرجه). ففي حديث الكتاب الذي أنزله اللّه تعالي علي النبي صلي اللّه عليه و آله و سلّم بأسماء الأئمة عليهم السّلام قال في آخره عند التعرض لحال المؤمنين في عصر الغيبة:

«فيقتلون و يحرقون و يكونون خائفين مرعوبين و جلين، تصبغ الأرض بدمائهم، و يفشوا الويل و الرنين «2» في نسائهم، أولئك أوليائي حقا، بهم أدفع كل فتنة عمياء

______________________________

(1) سورة البقرة الآية: 214.

(2) الصوت الحزين.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 13

حندس «1»، و بهم أكشف الزلازل، و أدفع الآصار و الأغلال. أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة، و

أولئك هم المهتدون» «2».

و ليس ذلك من اللّه سبحانه و تعالي استهوانا بهم، و امتهانا لهم، و استصغارا لشأنهم، بل استهوانا بالدنيا و احتقارا لها، حتي ورد عن المعصومين (صلوات اللّه عليهم): «لو عدلت الدنيا عند اللّه عز و جل جناح بعوضة ما سقي عدوه منها شربة ماء» «3». و لأن عباده المؤمنين أهل لتحمل المسئولية، و الثبات علي المبدأ، و الصبر علي المكاره.

و قد ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «إنا صبر و شيعتنا أصبر منا، قلت: جعلت فداك، كيف صار شيعتكم أصبر منكم؟ قال: لأنا نصبر علي ما نعلم و شيعتنا يصبرون علي ما لا يعلمون» «4». و خصوصا المؤمنين في عصر الغيبة، فقد تظافرت الأحاديث في الثناء عليهم و في بعضها أن اللّه لو لم يعلم أن في المؤمنين من أهل البصائر من يثبت علي القول بإمامة الحجة (صلوات اللّه عليه) في غيبته لما غيبه عنهم.

______________________________

(1) شديد الظلمة.

(2) بحار الأنوار ج: 36 ص: 197.

(3) الكافي ج: 2 ص: 246.

(4) الكافي ج: 2 ص: 93. بحار الأنوار ج: 68 ص: 80.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 14

و في حديث أبي خالد الكابلي عن الإمام زين العابدين عليه السّلام قال: «يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته و القائلين بإمامته و المنتظرين لظهوره عليه السّلام أفضل من أهل كل زمان، لأن اللّه تعالي ذكره أعطاهم من العقول و الأفهام و المعرفة، ما صارت به الغيبة عنهم بمنزلة المشاهدة، و جعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله و سلّم بالسيف، أولئك المخلصون حقا، و شيعتنا صدقا، و الدعاة إلي دين اللّه سرا و جهرا» «1»

…

إلي غير ذلك من الأحاديث في هذا المجال.

و قد ورد عنهم (صلوات اللّه عليهم) في أحاديث كثيرة أن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأوصياء الأمثل فالأمثل، و أن اللّه يتعاهد عبده المؤمن بالبلاء، و أنه إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا إلي غير ذلك من المضامين العالية.

كل ذلك من أجل أن يعظم أجور المؤمنين و يذخر لهم أفضل الجزاء، و يكفر سيئاتهم، و يرفع درجاتهم. و لئلا يتعودوا الدعة و الراحة في الدنيا، فيركنوا إليها، و ينخدعوا بزينتها، و يتمادوا في غيهم و غفلتهم، و يتناسوا ما وراءهم كالبهائم المهملة و الأنعام السائمة، أو أضل سبيلا.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 36 ص: 387.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 15

علي أن اللّه جل شأنه لا يعطي عباده في الآخرة جزافا، بل جعل الدنيا لهم دار امتحان و فتنة، فمن ثبت علي الحق و صبر في المحن، و أدي ما عليه، فاز بعظيم الأجر و جميل الذكر، و كان البلاء في حقه رحمة و بلاء حسنا، و من فشل في الامتحان و لم يثبت علي الحق خسر و كان البلاء في حقه نقمة. و نعوذ باللّه تعالي من ذلك.

فالحمد للّه تعالي علي حسن بلائه و جميل صنعه بعباده المؤمنين. و نسأله سبحانه بمنه و لطفه أن يوفقنا و إياكم للثبات علي الحق، و الخروج من هذه المحن مفلحين منجحين، غير خائبين و لا خاسرين. و أن لا يجعلنا ممن يَعْبُدُ اللّٰهَ عَليٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصٰابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصٰابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَليٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ الْخُسْرٰانُ الْمُبِينُ «1».

كما نسأله جل شأنه بفضله و رحمته أن يعينكم في محنتكم، و يرعاكم في غربتكم،

و يحوطكم برعايته و عنايته، و يعيذكم من مضلات الفتن، و يسددكم للتي هي أقوم، و يهديكم سواء السبيل. إنه الرءوف بالمؤمنين الرحيم بهم.

أما من جانبكم فعليكم أن تتكلوا علي اللّه تعالي و تلجئوا إليه، ثم تنظروا لأمركم بوعي و رويّة، و تبصر و تدبر، و تقدّروا

______________________________

(1) سورة الحج الآية: 11.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 16

حجم مشكلتكم و محنتكم، و تحيطوا بالمخاطر و المهالك التي في طريقكم، و تعرفوا عظم المسئولية الملقاة علي عواتقكم، إزاء أنفسكم و أهاليكم و دينكم و مثلكم، ثم تصمموا بعزم و حزم علي العمل الجاد في سبيل ذلك كله، و اللّه سبحانه و تعالي معكم و هو المعين لكم برحمته.

أما إذا لم ير اللّه تعالي منكم الاهتمام بذلك، إما لعدم المبالاة بالنتائج، و قصر اهتمامكم علي الجوانب المادية العاجلة، و إما للاستهوان بالمشاكل و ثقة بالتغلب عليها اعتدادا بالنفس و غرورا، فقد يكلكم سبحانه و تعالي لأنفسكم، و تكون هذه المحنة سببا لإعراضه تعالي عنكم و خذلانه لكم، فإن المؤمنين في خطر من الفتنة و التمحيص، خصوصا في عصورنا هذه عصور غيبة الإمام (عجل اللّه فرجه)، كما تضمنت ذلك الأحاديث الكثيرة عن أئمة أهل البيت (صلوات اللّه عليهم).

ففي حديث المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السّلام:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أما و اللّه ليغيبن إمامكم سنين من دهركم، و لتمحصن حتي يقال: مات؟ قتل؟ هلك؟ بأي واد سلك؟ و لتدمعن عليه عيون المؤمنين. و لتكفأن كما تكفأ السفن في أمواج البحر، فلا ينجو إلا من أخذ اللّه ميثاقه، و كتب في قلبه الإيمان، و أيده بروح منه … قال: فبكيت ثم قلت: فكيف نصنع؟

فنظر إلي شمس

داخلة في الصفة، فقال: يا أبا عبد اللّه تري هذه

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 17

الشمس؟ قلت: نعم. قال: و اللّه إن أمرنا أبين من هذه الشمس» «1».

و في حديث علي بن جعفر عن أخيه الإمام الكاظم عليه السّلام أنه قال: «إذا فقد الخامس من ولد السابع فاللّه اللّه في أديانكم لا يزيلكم عنها أحد. يا بني إنه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتي يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من اللّه عز و جل امتحن بها خلقه … » «2».

و في حديث الحسن بن محبوب عن الإمام الرضا عليه السّلام أنه قال: «لا بد من فتنة صماء صيلم «3» يسقط فيها كل بطانة و وليجة و ذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي … » «4».

إلي غير ذلك من الأخبار المنذرة بخطورة الأمر و تعقد المشكلة.

فاستعيذوا باللّه تعالي من مضلات الفتن، و ألجئوا إليه في أن يعينكم في أمركم و يسددكم في محنتكم و يخرجكم من هذا الامتحان العسير مفلحين منجحين، غير خائبين و لا خاسرين،

______________________________

(1) الكافي ج: 1 ص: 336، و اللفظ له. بحار الأنوار ج: 51 ص: 147.

(2) بحار الأنوار ج: 51 ص: 150.

(3) الأمر الشديد.

(4) بحار الأنوار ج: 51 ص: 152.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 18

و احسنوا الظن باللّه تعالي و التوكل عليه، و وثقوا علاقتكم معه، فإنه لا يخذلكم بعد ذلك إن شاء اللّه تعالي، لأنه عند حسن ظن عبده المؤمن، و هو أرحم الراحمين و أكرم المسئولين و ولي المؤمنين.

و علينا أن نلفت أنظاركم لأمور تخصّ دينكم و دنياكم، تعينكم في أمركم بإذن اللّه تعالي..

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 19

بصيرة في دينه و ثباتا في يقينه، كما قال عز من قائل: وَ لَمّٰا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزٰابَ قٰالُوا هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ مٰا زٰادَهُمْ إِلّٰا إِيمٰاناً وَ تَسْلِيماً.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اللّٰهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضيٰ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا «1».

و مما يزيدكم قوة في أمركم، و سلوة في محنتكم، و معرفة بعظمة نعمة اللّه تعالي عليكم، حين عرّفكم نفسه و دينه و أولياءه أن تمعنوا النظر في حال الأمم الأخري، و لا سيما التي حللتم بين أظهرها، فتأملوا حالها في البعد عن اللّه تعالي، و الذهول عن دعوته، و الانغماس المزري في المادة، و الاندفاع وراء الشهوات، و مجانبة الحياء، و التحلل من القيم، و التفكك العائلي، و الضياع، و فقد الهدف، متجردة عن شرف الإنسانية، راضية بضحالة

______________________________

(1) سورة الأحزاب الآية: 22- 23.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 21

الحيوانية، و الانحطاط في حضيضها، بل قد تزيد عليها و حشية و شراسة و تفاهة.

كما تتجلي عظمة هذا الدين و قوته بالمقارنة مع الأديان الأخري، فهو مذ دخل البلاد فاتحا في العصور السابقة انبهر به أهلها، فتركوا أديانهم زهدا فيها، و اعتنقوه رغبة فيه، و دخلوا فيه أفواجا، و آمنوا به طائعين غير مكرهين. و قد استوعب بحقه و واقعيته أخطاء حملته، و سلبياتهم، و سوء تصرف الحكام الذين حكموا باسمه.

و لما تعرض لهجمات أعدائه لم يتضاءل أمامها و لا تراجع، سواء كانت هجمات فكرية تشكيكية أم مادية و عسكرية.

فقد تعرض منذ عصوره الأولي حتي العصور الأخيرة لموجات الزندقة و الإلحاد و التحريف و التشويه. لكنه صمد أمامها حتي تراجعت خائبة

خاسرة.

كما تعرض للهجمات العسكرية الكافرة كالحروب الصليبية و غيرها. إلا أنها لم تقو علي أن تقتلع جذوره، و تجرد أهله منه، إلا في الأندلس، لظروف خاصة شاذة. علي أنه بلغنا وجود بقية له هناك، حبذا لو يتهيأ التعرف عليها.

و لعل أعظم هجمة مرت عليه في العصور السابقة، هجمة المغول الشرسة، التي دمرت في طريقها كل شي ء بوحشية

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 22

متناهية. لكن لم يدم الأمر طويلا حتي اعتنق المغول أنفسهم هذا الدين، و صاروا من حملته و أنصاره، و كان لهم بعد ذلك أعظم الأثر في خدمته و نشره في ربوع الأرض.

و أعظم منها و أقسي ما تعرض له في العصر الحديث- بعد أن أنهكته العلل و الأسقام- من هجوم الغرب و الاستشراق عليه بعد دراسة طويلة و تخطيط و تنسيق- بجيوشه الساحقة و سلاحه المتطور الفتاك، و هو يحمل بإحدي يديه ثقافته و تكنولوجيته الباهرة، و بالأخري شعاراته البراقة في الحرية و العدالة و حقوق الإنسان، ليقضي علي هذا الدين الحنيف في عقر داره، و يجرد أبناءه منه، و يبعدهم عنه. و تبعتها من الشرق الشيوعية الملحدة التي تنكر بصراحة و إصرار الدين و القيم، و لا تعترف بغير المادة.

و تحاول أن تجمّل وجهها بالعدالة و المساواة و الاشتراكية و السلام.

و مرت الفترة العصيبة التي شهدناها، و شهدها آباؤنا من قبل، و عاشوها بآلامها و مآسيها، و ارتفعت صيحات المشبوهين و السذج، و شعاراتهم، ترمي هذا الدين العظيم، و المبدأ الشريف، و حملته بالجهل و الجمود، و الرجعية و التخلف، في محاولة لإبعاده عن واقع الأمة و كيانها و تجريدها منه.

ثم لم يلبث الأمر طويلا حتي خفتت تلك الدعوات، و ذهب بريقها،

و انحسرت تلك الهجمات، و ارتدت خائبة خاسرة، و اتضح زيف تلك الشعارات، و سقطت الأقنعة، و ظهر

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 23

الغرب و الشرق علي حقيقتهما في الكذب و البهتان، و الأنانية و العدوان، و الوحشية و انتهاك حقوق الإنسان، و في الخواء و الميوعة و ضياع الشخصية، و في المادية و الحيوانية، و الضحالة، و في التفكك العائلي و التحلل.

و تراجع لهذا الدين أبناؤه، معتزين به داعين إليه، مدافعين عنه، متحملين في سبيله المصاعب و المصائب، و المحن و الرزايا، دون أن تثنيهم عنه.

و إذا بكم- أنتم المغتربين المؤمنين- تحملون دينكم في بلادهم، و تعلنون دعوتكم في ديارهم، و تقيمون شعائركم بين أظهرهم، فخورين بذلك، تدعون إليه، لتقوم الحجة من اللّه تعالي عليهم بكم، علي نحو لم يكن يخطر علي بال أحد قبل نصف قرن أو أكثر.

و نفس الحديث يجري عن التشيع لأهل البيت عليهم السّلام، و الولاء لهم، الذي به يكمل الإسلام و تتم نعمته، حيث تحزبت عليه فرق الضلال، و تحالفت علي مقاومته قوي الكفر، من يومه الأول حتي يومنا هذا، و حاربوه بلا هوادة، و أنزلوا به النوازل، و قارعوه بالقوارع، و جدوا في إطفاء نوره، و نسف قواعده، و استئصال شجرته، و هو يزداد مع كل ذلك قوة و صلابة، و ظهورا و انتشارا.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 24

و قد صدق اللّه عز و جل حيث يقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ اللّٰهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ «1».

و حين يقول: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفٰاءً وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ النّٰاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ … «2».

و حيث يقول: ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهٰا

ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي السَّمٰاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهٰا وَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مٰا لَهٰا مِنْ قَرٰارٍ. يُثَبِّتُ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّٰابِتِ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ فِي الْآخِرَةِ … «3».

فاشكروا اللّه تعالي علي عظيم نعمته عليكم، و جميل صنعه بكم، حيث عرّفكم نفسه و أولياءه، و جعلكم أهل دعوته و حملة دينه، و وفقكم للتمسك بحبله، و موالاة أوليائه، و معاداة أعدائه. و أدوا حق هذه النعمة، و تعاهدوها، و جدّوا في الحفاظ عليها، و قووا معنوياتكم اعتزازا بها، و شعورا بالرفعة علي من فقدها.

______________________________

(1) سورة الصف الآية: 8.

(2) سورة الرعد الآية: 17.

(3) سورة إبراهيم الآية: 24- 27.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 25

26

و في حديث المفضل: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

عليكم بالتفقه في دين اللّه، و لا تكونوا أعرابا. فإنه من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة و لم يزك له عملا» «1».

و في صحيح أبان بن تغلب عنه عليه السّلام: «قال: لوددت أن أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتي يتفقهوا» «2» … إلي غير ذلك مما لا يحصي كثرة.

أما أنتم المغتربين فيتأكد ذلك عليكم لأمرين:

1- أن المجتمع الذي تعيشون فيه بعيد عن الدين، غريب عن مفاهيمه. فإذا أهملتم التعلم أو تهاونتم به، ضاع عليكم دينكم، و خفيت معالمه تدريجا حتي تضمحل بمرور الزمن.

2- أنكم هاجرتم من بلاد الإسلام و أنتم تملكون قدرا من المعلومات الدينية، فإذا تفلتت منكم و نسيتموها كان سفركم لبلاد الكفر تعربا بعد الهجرة، فإن التعرب بعد الهجرة هو انتقال المسلم للبلاد التي تنقص فيها معلوماته الدينية، و يزداد جهله بدينه. و هو من أكبر الكبائر حتي عدّ من الخمس، و من السبع منها.

ففي حديث ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن الإمام الصادق عليه السّلام: «وجدنا في كتاب علي عليه السّلام الكبائر خمسة:

______________________________

(1) الكافي ج: 1 ص: 31، و اللفظ له. بحار الأنوار ج: 1 ص: 214.

(2) الكافي ج: 1 ص: 31.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 27

الشرك، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البينة، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة» «1».

و في صحيح عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكبائر، فقال: هن في كتاب علي عليه السّلام سبع: الكفر باللّه، و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البينة، و أكل مال اليتيم ظلما، و الفرار

من الزحف، و التعرب بعد الهجرة، قال:

فقلت: هذا أكبر المعاصي؟ فقال: نعم. قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة.

قلت: فما عددت ترك الصلاة في الكبائر. قال: أي شي ء أول ما قلت لك؟ قلت: الكفر. قال: فإن تارك الصلاة كافر. يعني: من غير علة» «2».

و في حديث أبي بصير عنه عليه السّلام: «و التعرب و الشرك واحد» «3».. إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة علي حرمة ذلك بوجه مؤكد.

و من هنا فإن عليكم أن تجدّوا في تعلم دينكم في العقائد و الأحكام، و تتعرفوا علي الحلال و الحرام، و الحذر من إهمال ذلك أو التسامح فيه، مهما كلف الثمن، و ضاق الوقت، و كثرت

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 259.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 254.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 256.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 28

المشاغل، فإن خطر التسامح فيه عظيم، و خسائره لا تعوض، و اللّه سبحانه و تعالي يعينكم، و ييسر أمركم، لأنه في عون عبده إذا عرف منه الاهتمام بأمره و السير في طريق رضاه.

و حبذا لو كان ذلك بوجه رتيب منظم، فإنه أحري بأن تستمروا عليه، و لا تهملوه، لأن للعادة حكمها، بخلاف ما إذا ابتني علي الاكتفاء بالمتيسر من دون التزام محدد، فإنه يتعرض للإهمال، لكثرة المشاغل و الملهيات.

و الأولي اختيار يوم الجمعة، فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «أف للرجل المسلم لا يفرغ نفسه في الأسبوع يوم الجمعة لأمر دينه، فيسأل عنه» «1». و إن لم يتيسر ذلك أمكن اختيار يوم آخر، أو مناسبات خاصة تستغل لهذا الأمر المهم.

كما أن الأولي محاولة ذلك بصورة جماعية، في مراكز تجمعكم- كالمساجد

و الحسينيات- أو في بيوت بعضكم. و لا أقل مع أفراد العائلة. فإن المعرفة الجماعية أعم فائدة، و أولي بتركيز المعلومات، و أحري بالالتزام. و إذا تعذر ذلك فلا تتركوا الميسور منه، كلّ حسب طاقته، من دون تسامح أو تفريط أو تسويف.

و يمكنكم استغلال طرق المعرفة و الاتصال الحديثة- كالكاسيتات و الفاكس و الإنترنيت- فقد فتحت تلك الطرق

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 252، و اللفظ له، بحار الأنوار ج: 86 ص: 347.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 29

أبواب التعلم و المعرفة و يسرتها. و الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها التقطها.

و إن كان اللازم مع ذلك محاولة الحصول علي رسالة مرجع التقليد العملية، و التعرف علي ما فيها و مدارستها، لتكون المرجع الدائم لكم في غربتكم.

كما أن اللازم عليكم شدة الاهتمام بالاطلاع علي أكبر عدد من أحاديث أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، فإن فيها أصناف المعرفة في العقائد، و الأحكام، و الأخلاق، و العشرة، و السلوك. و ذلك بمحاولة شراء الكتب المتضمنة لسيرتهم و أحاديثهم، و ارتياد المكتبات التي تحويها، و استغلال أوقات الفراغ في ذلك، فإنه من أعظم المكاسب التي تعينكم في غربتكم، و تؤنسكم في وحشتكم، بدلا من قتل الوقت في التوافه، أو الأمور الضارّة التي تشيع في تلك المجتمعات.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 30

المستهدفين بها، و خطرها عليكم أشد من خطرها علي غيركم..

(أولا): لبعدكم عن المجتمعات الدينية، فقد لا تتفاعلون بالمفاهيم التي تجري عليها تلك المجتمعات، و تشيع فيها.

(و ثانيا): لغفلة كثير منكم عن حقائق الدين، أو جهله بأدلتها، و إن أقرّ بها بدوا، أو إجمالا، أو لحسن ظنه بالعلماء الذين ذكروا له الأدلة و النصوص التي تضمنتها، من دون أن يحيط بها تفصيلا بنفسه.

(و ثالثا): لبعدكم عن مراكز الثقافة الدينية الأصيلة، لتعرفوا موقفها من تلك الأفكار المنحرفة و الدعاوي التي تطلق هذه الأيام.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 31

(و رابعا): لأن تلك الأفكار و الدعاوي تطرح، و يروج لها، علي أنها أفكار تصحيحية، تتناسب مع المرحلة الحاضرة- قد اكتشفت بعد التمحيص و التنقيب خلفا لأفكار و طروحات قديمة جامدة- صادرة من أناس يجعلون أنفسهم أو يجعلهم الإعلام المعادي في المستويات العالية أو المتقدمة في المعرفة.

(و خامسا): لتعطشكم للمفاهيم الدينية و تشوقكم للثقافة الإسلامية، بسبب بعدكم عن بلادكم و غربتكم في تلك المجتمعات الكافرة، فتتلقفون كل ما يصل إليكم، و تتفاعلون معه لأول وهلة.

فإن هذه الأمور بمجموعها تجعل منكم أرضية صالحة لتقبّل تلك الأفكار أو التأثر بها أو الارتباك بسببها. و لا سيما و أنها تمتلك من القوة الإعلامية و الدعاية، و الدعم المادي و السياسي ما يجعلها تنتشر بسرعة نسبيا، بالإضافة إلي الأفكار الأصيلة الفقيرة ماديا و المحاصرة المكبوتة.

فالحذر كل الحذر- أيها المغتربون المؤمنون- علي دينكم لئلا يسرق منكم بهذه الطروحات و المحاولات المشبوهة، فإن دينكم و ولاءكم لأهل البيت (عليهم أفضل الصلاة و السلام) هما الجوهرتان الثمينتان، و النعمتان الكبريان اللتان أنعم اللّه عز و جل بهما عليكم و علي جميع المؤمنين، لطفا منه و فضلا،

فلا ينبغي التفريط بهما و كفر نعمة اللّه تعالي فيهما، فيكون عاقبة ذلك الوبال و النكال و الخسران الدائم، كما

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 32

قال عز و جل: أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دٰارَ الْبَوٰارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهٰا وَ بِئْسَ الْقَرٰارُ «1».

و نحن و إن كنا علي بصيرة تامة بصحة عقيدتنا و مسلماتنا، و قوة حجتنا، و تناسق أدلتنا، إلا أنا لا نريد منكم التشبث بها تقليدا لسلفنا الصالح و جمودا علي الماضي الموروث، و رفض الأفكار و الطروحات المضادة من دون فحص و تثبت، فإنا- بحمد اللّه تعالي و فضله- في غني عن ذلك.

و قد أكد أئمتنا (صلوات اللّه عليهم)- تبعا للقرآن المجيد و حكم العقل السليم- علي النظر و البحث، و نهوا عن أخذ الدين من أفواه الرجال من دون بصيرة و دليل.

بل كل ما نريده منكم هو التثبت أمام تلك الأفكار و الطروحات المنحرفة، و التروي في أمرها و عدم الاسترسال إليها، و الاندفاع وراءها، و التفاعل معها، غفلة عن حقيقة الحال، أو بتخيل أنها قد صدرت من أناس باحثين يحترمون أنفسهم، لا يتعمدون مخالفة الحقيقة، أو تجاهلها، أو تحريفها.

و ذلك..

(أولا): بملاحظة الظروف و المقارنات المثيرة للريب في دوافع طرح تلك الأفكار، و إطلاق تلك التصريحات، و في إخلاص أصحابها و أمانتهم. حيث تزامن ذلك منهم مع ظهور

______________________________

(1) سورة إبراهيم الآية: 28- 29.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 33

الإسلام و التشيع الفاعل في الساحة العالمية، و تهديدهما لمصالح قوي الكفر و الشر، و تكالب تلك القوي ضدهما، و تحالفها علي محاربتهما ماديا و إعلاميا، و بوجه مكشوف في بعض الحالات.

و لا سيما مع ما يتمتع

به أصحاب تلك الأفكار و التصريحات من حرية الحركة و ما يملكونه من قوة إعلامية هائلة، بينما نري الأفكار الأصيلة فقيرة ماديا و إعلاميا و محاصرة نسبيا.

(و ثانيا): بالرجوع إلي مصادر المعرفة و النظر في أدلتنا بموضوعية و إنصاف، و لو بالاتصال بمراكز الثقافة الدينية و الحوزات الشريفة، و الاستعانة بأهل البحث و التحقيق، من أجل معرفة تلك الأدلة و الوصول إليها، لتتضح الحقيقة بجلاء، و لتكون عاقبة ذلك ثبات العقيدة عن بصيرة تامة، و حجة كافية، فإن عقيدتنا- بحمد اللّه تعالي- غنية بذلك وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «1».

و إن من أعظم ما يعينكم علي معرفة الحقيقة و جلائها هو الاطلاع علي أحاديث أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة و السلام) و سيرتهم، فإنها تعكس صورة جلية عن واقعهم الذي عاشوه، و خطهم المستقيم الذي ساروا عليه، و مفاهيمهم الحقة التي تبنوها، و تبعهم شيعتهم فيها، يصعب معها التحريف و التشويه. و من ثم أكدنا علي ذلك فيما سبق.

______________________________

(1) سورة النساء الآية: 141.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 34

في آيات كثيرة جدا، قال تعالي: وَ الْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ «1».

و علي ذلك أكدت أحاديث النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام ففي حديث محمد بن عبد اللّه بن طاهر قال: «كنت واقفا علي أبي و عنده أبو الصلت الهروي و إسحاق بن راهويه و أحمد بن محمد ابن حنبل. فقال أبي: ليحدثني كل رجل منكم بحديث. فقال أبو

______________________________

(1) سورة العصر الآية: 1- 3.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 35

الصلت الهروي: حدثني علي بن موسي الرضا عليه السّلام- و كان و اللّه رضا كما سمي- عن أبيه موسي بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: الإيمان قول و عمل. فلما خرجنا. قال أحمد بن حنبل: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سعوط المجانين إذا سعط به المجنون أفاق» «1».

و في حديث أبي الصلت الهروي الآخر: «سألت الرضا عليه السّلام عن الإيمان، فقال: الإيمان عقد بالقلب، و لفظ باللسان، و عمل بالجوارح. لا يكون الإيمان إلا هكذا» 2.

و في حديث المفضل: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إياك و السفلة، فإنما شيعة عليّ عليه السّلام من عفّ بطنه و فرجه، و اشتد جهاده، و عمل لخالقه، و رجا ثوابه، و خاف عقابه. فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر» «3».

و النصوص في ذلك لا تحصي كثرة و شيوعا، علي اختلاف مضامينها و ألسنتها. بل هو أمر بديهي

لا يحتاج للنصوص.

و من ثم فاللازم عليكم الاهتمام بهذا الجانب، و تأكيده في نفوسكم و عقولكم و شعوركم، تأكيدا يتجسد في عملكم، و سلوككم، و معاشرتكم.

______________________________

(1) (1)، (2) بحار الأنوار ج: 66 ص: 65.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 ص: 64.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 36

و هو و إن كان لا يناسب المجتمعات التي تقيمون فيها و الظروف التي تعيشونها، إلا أن أهمية هذا الأمر تفرض عليكم التضحية في سبيله، و شد العزم عليه مهما كلف من ثمن، متكلين علي اللّه تعالي، مستمدين منه العون و التسديد. و إلا غلبتم علي أمركم و ذبتم في تلك المجمعات الفاسدة المتحللة، و انصهرتم بها، و ضاعت شخصيتكم، و تحطم كيانكم إلي غير رجعة، و كان ذلك سببا في خذلان اللّه تعالي لكم، فيعرض عنكم و يكلكم إلي أنفسكم وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ «1».

علي أن الإصرار و الاستمرار علي الالتزام الديني و إن كان قد يكون سببا للحرج في أول الأمر، إلا أنه إذا كان مشفوعا بحسن الخلق و جميل المعاشرة، يلجئ مجتمعكم إلي الاعتراف به علي أنه الأمر الواقع الذي لا بد من التسليم به و التعايش معه، و التعامل معكم علي أساسه، فتخف عليكم مئونته. بل يرفع من مكانتكم في نفوسهم، و يفرض احترامكم عليهم. لأن النفوس مجبولة علي احترام ذوي المبادئ الشريفة، و الإرادة القوية، و الشخصية المتكاملة.

و فوق كل ذلك رضا اللّه تعالي الذي بيده الأمور و إليه المصير، فإن البخوع لأمره و نهيه، و إحكام العلاقة به من أهم أسباب الفلاح و النجاح و التأييد و النصر، كما قال

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية: 160.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي،

ص: 37

عز من قائل: إِنْ تَنْصُرُوا اللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ «1» و إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّٰهُ فَلٰا غٰالِبَ لَكُمْ «2» و هو خير الناصرين و ولي المؤمنين.

______________________________

(1) سورة محمد الآية: 7.

(2) سورة آل عمران الآية: 160.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 38

لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1».

فعلي المسلم أن يلزم نفسه بقراءته بتدبر و تبصر، و يحاول العمل عليه، و الاتعاظ به.

قال اللّه تعالي: إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّٰالِحٰاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً «2».

و قال عز من قائل: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لٰا يَزِيدُ الظّٰالِمِينَ إِلّٰا خَسٰاراً «3».

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، و الهادي الذي لا يضل، و المحدث الذي لا يكذب. و ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدي، أو نقصان في عمي …

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية: 88.

(2) سورة الإسراء الآية: 9.

(3) سورة الإسراء الآية: 82.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 40

فاستشفوه من أدوائكم و استعينوا به علي لاوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء، و هو الكفر و النفاق، و الغي و الضلال … و إن اللّه سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن، فإنه حبل اللّه المتين، و سببه الأمين، و فيه ربيع القلب، و ينابيع العلم، و ما للقلب جلاء غيره … » «1».

3- ما ورد عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته الطاهرين عليهم السّلام من المواعظ و الإرشادات، التي تضمنتها أحاديثهم و خطبهم و سيرهم، كما أشرنا إليه آنفا. و لعل لنهج البلاغة ميزته في ذلك، لجامعيته- علي اختصاره- و سهولة تناوله، و رفعة مضامينه و بلاغته، حتي عدّ أول كتاب إسلامي بعد القرآن المجيد. فينبغي لكم تعاهده و مدارسته، و التدبر في مضامينه، و التفاعل معها، فإنه خير معين لكم في

غربتكم. بل هو فخر لكم أمام غيركم، و أقوي في تثبيت حجتكم.

4- ذكر اللّه تعالي و دعاؤه و الالتجاء إليه، و التضرع بين يديه في غفران ذنوبكم، و ستر عيوبكم، و إصلاح نفوسكم، و جبران نقصكم، و إعانتكم في أمركم، و قضاء حوائجكم العامة و الخاصة، و نصركم علي أعدائكم، و دفع البلاء عنكم، إنه ولي المؤمنين، الرحيم بهم.

______________________________

(1) نهج البلاغة ج: 2 ص: 91- 95، و اللفظ له. بحار الأنوار ج: 89 ص: 24.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 41

و قد تظافرت الآيات و الروايات في الحثّ علي ذلك، قال عز من قائل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لٰا تَكْفُرُونِ «1».

و قال سبحانه: تَتَجٰافيٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضٰاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلٰا تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ «2».

و قال عز و جل: قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لٰا دُعٰاؤُكُمْ «3».

و قال تعالي: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ «4».

و في رسالة الإمام الصادق عليه السّلام للشيعة التي كانوا يضعونها في مساجدهم و يتدارسونها: «و عليكم بالدعاء فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء، و الرغبة إليه، و التضرع إلي اللّه و المسألة، فارغبوا في ما رغبكم اللّه فيه، و أجيبوا اللّه إلي ما دعاكم، لتفلحوا و تنجحوا [و تنجوا. ظ] من عذاب اللّه» «5».

______________________________

(1) سورة البقرة الآية: 152.

(2) سورة السجدة الآية: 16- 17.

(3) سورة الفرقان الآية: 77.

(4) سورة المؤمن الآية: 60.

(5) وسائل الشيعة ج: 4 ص: 1089.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 42

و في حديث الفضيل عنه عليه السّلام: «قلت له

أوصني. قال:

أوصيك بتقوي اللّه و صدق الحديث، و أداء الأمانة، و حسن الصحابة لمن صحبك، و إذا كان قبل طلوع الشمس و قبل الغروب فعليك بالدعاء، و اجتهد، و لا يمنعك من شي ء تطلبه من ربك، و لا تقول: هذا ما لا أعطاه، و ادع فإن اللّه يفعل ما يشاء» «1» … إلي غير ذلك مما لا يحصي كثرة.

و قد تظافرت النصوص بأن الدعاء يرد القضاء و البلاء و قد أبرم إبراما «2».

فعليكم أن لا تغفلوا هذا الجانب العظيم الذي منّ اللّه تعالي به علي عباده رحمة منه بهم، و هو يزيد من ارتباطكم باللّه تعالي و يوثق علاقتكم به، و يعرّضكم لرحمته و لطفه. كما أنه يرفع من معنوياتكم، و يشعركم بالقوة و الرفعة، و يزيدكم طمأنينة و صلابة، و عزما و تصميما.

و قد قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه و سلامه) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه الصلاة و السلام): «و أي سبب أوثق من سبب بينك و بين اللّه إن أنت أخذت به» «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 4 ص: 1091.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 4 ص: 1093.

(3) نهج البلاغة ج: 3 ص: 38، و اللفظ له. بحار الأنوار ج: 74 ص: 199.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 43

و لا تغفلوا تعاهد ذلك في ممساكم و مصبحكم. و لا سيما في أوقاته المعروفة، و مواسمه المعهودة، كأدبار الصلوات، و أيام الجمع و لياليها، و شهر رمضان المبارك، و الأعياد، و ليلة النصف من شعبان … إلي غير ذلك.

و لأهل البيت (صلوات اللّه عليهم) من ذلك كنوز ثمينة، و لآلي مكنونة، و جواهر منضدة، حملها عنهم شيعتهم، و حافظوا عليها و تعاهدوها، حتي عرفوا

بها. فكانت عنوان فخر لهم، و وسام عز و شرف يشهد بانتمائهم لأهل البيت (صلوات اللّه عليهم) حقا و ركوبهم لسفينتهم، و بتمسكهم بهم، و بخوعهم لهم، و اختصاصهم بهم، حتي خصهم أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام) بالعلوم و المعارف الإلهية التي أودعها اللّه تعالي عندهم، و أعطاهم مفاتيحها. و الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لٰا أَنْ هَدٰانَا اللّٰهُ «1».

و يؤكد ذلك عليكم أنكم في بلاد أطبق عليها ظلام الضلال و الغفلة، لا يعرف فيها اللّه تعالي، و لا يذكر، فاجهدوا أن تكثروا من ذكره لتكونوا نورا في ذلك الظلام، و مصابيح للّه تعالي في تلك البلاد.

______________________________

(1) سورة الأعراف الآية: 43.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 44

و في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأبي ذر رضي اللّه عنه: «قال: يا أبا ذر الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارين في سبيل اللّه» «1» و نحوه نصوص كثيرة.

و قد ورد في حديث غزوة مؤتة: «فلما ودّع عبد اللّه بن رواحة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال له: مرني بشي ء احفظه عنك. قال:

إنك قادم غدا بلدا السجود به قليل، فأكثر السجود. فقال عبد اللّه: زدني يا رسول اللّه. قال: أذكر اللّه فإنه عون لك علي ما تطلب … » «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 4 ص: 1190.

(2) بحار الأنوار ج: 21 ص: 60.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 45

النصوص علي ذلك تأكيدا لا يبقي عذرا لمعتذر. ففي صحيح أبي المعزي عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال:

المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يخونه. و يحق علي المسلمين الاجتهاد في التواصل، و التعاقد علي التعاطف، و المواساة لأهل الحاجة … » «2».

و في موثق السكوني عنه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:

الخلق عيال اللّه فأحب الخلق إلي اللّه من نفع عيال اللّه، و أدخل علي أهل بيت سرورا» «3».

و في حديث أبان بن تغلب عنه عليه السّلام: «قال: من كان وصولا لإخوانه بشفاعة في دفع مغرم، أو جرّ مغنم، ثبّت اللّه عز و جل قدميه يوم تزل فيه الأقدام» «4».

______________________________

(1) سورة الحجرات الآية: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 542.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 563.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 564.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 46

و في حديث أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين عليه السّلام: «قال: من قضي لأخيه حاجة فبحاجة اللّه بدأ و قضي اللّه له [بها. خ] مائة حاجة في إحداهن الجنة» «1».

و في صحيحه عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: من سر مؤمنا فقد سرّني، و من سرّني فقد سرّ اللّه عز و جل» «2».

و في صحيح المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السّلام:

«قال: لا يري أحدكم إذا أدخل علي مؤمن سرورا أنه عليه أدخله فقط، بل و اللّه علينا، بل و اللّه علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم» «3».

و في صحيح شعيب العقرقوفي: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لأصحابه:

اتقوا اللّه و كونوا إخوة بررة متحابين في اللّه متواصلين متراحمين، تزاوروا و تلاقوا و تذاكروا أمرنا و أحيوه» «4».

و في حديث خيثمة عنه عليه السّلام: «قال: أبلغ موالينا السلام و أوصهم بتقوي اللّه و العمل الصالح، و أن يعود صحيحهم مريضهم، و ليعد غنيهم علي فقيرهم، و أن يشهد حيهم جنازة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 564.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 569.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 570.

(4) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 411.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 47

ميتهم، و أن يتلاقوا في بيوتهم، و أن يتفاوضوا علم الدين، فإن ذلك حياة لأمرنا رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا … » «1».

إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة بألسنتها المختلفة، و مضامينها العالية في الترغيب علي ذلك، و الحث عليه و النهي عن تركه و التحذير منه.

كل ذلك مع حسن الخلق و التروي و الحلم و غير ذلك من شئون المعاشرة الحميدة. فقد أكد الإسلام في كتابه العظيم و علي لسان نبيه الكريم و آله الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) علي حسن الخلق، و لين الجانب، و حسن المخالطة، و جميل المعاشرة مع غير المؤمنين- كما يأتي- فضلا عن المؤمنين فيما بينهم.

فعلي المؤمنين عموما الاهتمام بهذا الجانب، و إيقاظ داعي الأخوة في نفوسهم، و تحفيز روح المودة بينهم. و يتأكد ذلك عليكم- أنتم المغتربين- حيث تجمعكم وحدة المحنة و المصيبة. ثم أنتم- أينما حللتم من تلك البلاد- أقلية لا يمكن أن تحافظ علي كيانها إلا بذلك، و به تتم ألفتها، و تجتمع فرقتها، و تتوحد كلمتها.

و اللّه في عونكم، و هو المسدد لكم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 400.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص:

48

تحسد الناس علي ما آتيتهم من فضلي، و لا تمدن عينيك إلي ذلك، و لا تتبعه نفسك، فإن الحاسد ساخط لنعمتي، صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي، و من يك كذلك فلست منه و ليس مني» «2».

و فيه- مع ذلك- محذوران:

1- أنه يضر بصاحبه، فيبقي معذبا نفسيا، متحرقا لحاله، شاعرا بالخيبة و الخسران. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، نفس دائم، و قلب هائم، و حزن لازم» «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 292.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 293.

(3) بحار الأنوار ج: 70 ص: 256. مستدرك الوسائل ج: 12 ص: 17.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 50

و عنه عليه السّلام أنه قال: «يكفيك من الحاسد أن يغتم في وقت سرورك» «1».

بل قد يجره للمهالك في الدنيا و الآخرة، إذ قد يعمي بصره و بصيرته، فينسي روابط الأخوة و الإيمان، و يفقد اتزانه، فيجمح في الإضرار بالمحسود، و يحاول الاعتداء عليه، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «الحسود سريع الوثبة بطي ء العطفة» «2».

و لا يبالي أن يتحمل جزيمة ذلك مهما عظمت، كما صدر من قابيل حينما قتل هابيل، و من إخوة يوسف حين ألقوه في الجب، و من كثير من الناس. و ربما يفشل في مسعاه و ينقلب و باله عليه، و يخسر الدنيا و الآخرة.

و هناك حوادث كثيرة يضيق المقام عن استقصائها.

2- أنه مدعاة للتنافر و الفرقة و الشحناء. و ذلك يضر بالناس عموما و بكم- أيها المغتربون- خصوصا، لأنكم أحوج الناس للألفة و الانسجام و جمع الكلمة و التعاضد.

فالأولي بالحاسد أن يكبح جماحه و يضبط أعصابه و يحاسب نفسه و ينبهها:

(أولا):

إلي أن وجود النعمة علي أخيه في النسب أو الدين، أو المشارك له في البلد مثلا، أولي من وجودها علي

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 70 ص: 256. مستدرك الوسائل ج: 12 ص: 17.

(2) بحار الأنوار ج: 70 ص: 256. مستدرك الوسائل ج: 12 ص: 17.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 51

الغريب عنه، فلما ذا يحسده دون الغريب، و إذا أراد أن يحسد كل أحد فما ذا يعمل، و إلي أين ينتهي و كيف يكون حاله، و يقر قراره؟!

(و ثانيا): إلي أن اللّه سبحانه و تعالي يخالف بين الناس في نعمه، فقد يكون عند الحاسد نعمة يفقدها المحسود، فبعض الناس قد يملك المال أو الجاه، و يفقد الولد أو الزوجة الملائمة، أو يبتلي بالأمراض أو المحن الأخري الظاهرة، أو الخفية، أو بالعكس.

و قد يكون للحاسد نعمة لا يرضي بإبدالها بنعمة المحسود التي حسده عليها. بل لو تأمل و تبصر فهو لا يرضي غالبا بأن يجعله اللّه تعالي كالمحسود في كل شي ء مما يعلمه و يجهله من نعمه و محنه.

(و ثالثا): إلي أن نعمة المحسود لما كانت من اللّه تعالي فبابه سبحانه مفتوح للراغبين و خيره مبذول للطالبين، و هو أكرم المسئولين و أرحم الراحمين، فليسأله من فضله، بدلا من أن يضيق بنعمة صاحبه. و إلي هذا ترجع الغبطة التي ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال فيها: «إن المؤمن يغبط و لا يحسد، و المنافق يحسد و لا يغبط» «1».

و إذا لم يستجب اللّه تعالي له عاجلا فليس ذلك لبخل منه عز و جل عليه، بل لأنه ليس صلاحا له، كما ورد في دعاء

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 293.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 52

الافتتاح:

«و لعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».

و علي ذلك أكدت نصوص أهل البيت عليهم السّلام. كما أكدت علي أن اللّه تعالي قد يذخر للداعي إذا لم يعجل إجابته ما هو الخير له.

و ليتق اللّه سبحانه و تعالي و يرض بقضائه و يوكل أمره إليه وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لٰا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً «1».

و يجري ذلك في غير الحسد مما يؤدي للتباغض و النفرة، من الأخلاق و السلوكيات الذميمة، كاللجاجة، و الإصرار علي الرأي من دون فائدة، و التدخل في شئون الآخرين من دون رضاهم، و دخول الإنسان في ما لا يعنيه، و غير ذلك مما يكثر الابتلاء به عند المعاشرة. فإنه ينبغي لكم تركه تجنبا عن المشاكل و المضاعفات الخطيرة و حذرا منها.

بل قد يحرم بعض تلك الأمور، كالنميمة، و الغيبة، و الغش، و إفشاء ما استأمنه عليه إخوانه من أسرارهم، و التجبر، و التكبر، و البغي. و غير ذلك مما قد يأتي التعرض لبعضه، و يدركه

______________________________

(1) سورة الطلاق الآية: 2- 3.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 53

العاقل اللبيب، و يعرفه أهل الدين و الإيمان، و من له إلمام بطرق المعاشرة و له تجارب فيها.

و نسأل اللّه سبحانه أن يوفقكم لما يحكم ألفتكم و يوثق علاقتكم فيما بينكم إنه أرحم الراحمين.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 54

مقدساتكم، و زيارة تلك المشاهد الشريفة و المقامات الرفيعة، التي تنشد إليها نفوس المؤمنين، و تهفوا إليها قلوبهم، و يحن إليها غير أهلها منهم، فضلا عمن شب فيها و قضي فيها زهرة حياته و أحلي أيامه.

و لا تلامون علي ذلك، خصوصا و أنكم الآن في محيط بعيد عن كل ذلك و مجتمع منافر له في عقيدته و مفاهيمه و سلوكياته و معاشراته.

غير أن الإنسان الرشيد ذا الشخصية القوية المتكاملة هو الذي يحسن التصرف و يسيطر علي مشكلته، و يتعايش معها و يتكيف حسبما تمليه ظروفه المحيط به و واقعه الذي يعيشه بتسليم و صبر و حكمة و تبصر، و لا يتضاءل أمامها و لا ينهار. و لا يضيق صدره و تضيع عليه الحلول، فتزداد مشكلته محنة و تعقيدا.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 55

فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «المؤمن له قوة في دين، و حزم في لين … و في الهزاهز و قور، و في المكاره صبور … » «1».

و لا نريد منكم بذلك أن تتناسوا بلادكم التي تركتموها و واقعكم الذي عشتموه و عاداتكم الحسنة التي كنتم عليها. بل عليكم أن تؤكدوا علاقتكم ببلادكم و مثلها و جميل عاداتها، و بمقدساتها و مشاعرها، فتتمثلوها بقلوبكم، و تحملوا ذكرياتها بجوانحكم، و تنشدوا إليها بأفكاركم، و تتشبثوا بها حسب طاقتكم، فإن الميسور لا يسقط بالمعسور.

فحافظوا علي عاداتكم الحسنة و سلوكياتكم الجيدة في محاولة لخلق مجتمع بينكم مناسب لمجتمعكم الذي ألفتموه، و جو مشابه للجو الذي عرفتموه، حتي لا تنفصلوا عن واقعكم الذي كنتم عليه و عشتموه.

ثم عليكم إزاء مقدساتكم أمران:

1- أن تتعاهدوا زيارة تلك المشاهد المقدسة و المواقع الشريفة و تتوجهوا إليها علي بعد

الدار باشتياق و لهفة، و حنين و حسرة، و تتذكروا تجمّع المؤمنين فيها، يوم كنتم معهم، و تسلموا علي من حلّ فيها من المعصومين (صلوات اللّه عليهم) و سائر من

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 145.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 56

يزار في بلاد الإسلام، و تخاطبوهم خطاب و آله حزين منكسر محروم، و تزوروهم بما تيسر لكم و جري علي ألسنتكم.

و إن كان الأولي بكم أن تختاروا الخطابات المعروفة و الزيارات المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام، حيث ينبغي لكم أن تجدّوا في تحصيلها و التعرف عليها و استيعابها. فإن فيها من المضامين العالية و الحقائق الصادقة ما يزيد من شدّكم نحوهم عليهم السّلام و يحكم علاقتكم بهم، و ولاءكم و حبكم لهم، و بغضكم لأعدائهم و براءتكم منهم. و لذلك أهميته الدينية العظيمة، كما يأتي إن شاء اللّه تعالي.

علي أن في زيارتكم لأئمتكم (صلوات اللّه عليهم) وفاء بالعهد الذي لهم في أعناقكم. ففي حديث الوشاء: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه و شيعته، و إن من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم» «1» و قريب منه غيره.

و قد ورد عن الأئمة من أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) الحث الشديد علي الزيارة من بعيد لمن لم يستطع الزيارة من قريب، و التأكيد علي ذلك، تثبيتا لعلاقة الولاء للمزور، و حفاظا علي الشعور بالانتماء له، و تقوية للارتباط به، و تجديدا لعهد إمامته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 10 ص: 346.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 57

و قد ورد عنهم (صلوات اللّه عليهم) في ذلك زيارات طويلة و قصيرة. فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «إذا بعدت عليك الشقة و نأت

بك الدار فلتعل أعلا منزلك، فلتصل ركعتين، و لتؤم بالسلام إلي قبورنا، فإن ذلك يصل إلينا» «1».

و عن الإمام الكاظم عليه السّلام عن آبائه (صلوات اللّه عليهم) عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إلي في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إلي السلام فإنه يبلغني» «2».

و عن سيدة النساء فاطمة الزهراء (صلوات اللّه عليها) أنها قالت: «أخبرني أبي و هو ذا هو أنه من سلم عليه و عليّ ثلاثة أيام أوجب اللّه له الجنة. قلت لها: في حياته و حياتك؟ قالت: نعم، و بعد موتنا» «3».

و في حديث سدير عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «يا سدير تزور قبر الحسين عليه السّلام في كل يوم؟ قلت: جعلت فداك لا، قال: فما أجفاكم. قال: فتزورونه في كل جمعة؟ قلت: لا، قال:

فتزورونه في كل شهر؟ قلت: لا، قال: فتزورونه في كل سنة؟

قلت: قد يكون ذلك.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 98 ص: 367.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 ص: 263.

(3) بحار الأنوار ج: 97 ص: 194. وسائل الشيعة ج: 10 ص: 287.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 58

قال: يا سدير ما أجفاكم للحسين عليه السّلام. أ ما علمت أن للّه عز و جل ألفي ألف ملك شعث غبر يبكون، و يزورون، لا يفترون. و ما عليك يا سدير أن تزور قبر الحسين عليه السّلام في كل جمعة خمس مرات، و في كل يوم مرة. قلت: جعلت فداك إن بيننا و بينه فراسخ كثيرة. فقال لي: اصعد فوق سطحك، ثم تلتفت يمنة و يسرة، ثم ترفع رأسك إلي السماء، ثم انح القبر، و تقول: (السلام عليك يا أبا

عبد اللّه، السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته). تكتب لك زورة. و الزورة حجة و عمرة. قال سدير:

فربما فعلت في الشهر أكثر من عشرين مرة» «1» … إلي غير ذلك من النصوص المؤكدة علي ذلك.

ثم هم مع كل ذلك وسائلكم إلي اللّه تعالي و شفعاؤكم عنده، فشفعوهم في حوائجكم الدنيوية و الأخروية، و حلّ مشاكلكم، و كشف مهماتكم، و تفريج كرباتكم، و إعانتكم في جميع أموركم، و ألجئوا إليهم (صلوات اللّه عليهم) في أن يسألوا اللّه تعالي في ذلك، و يستمطروا لكم رحمته، و يستفتحوا خزائن خيراته و بركاته و ألطافه و فيوضاته، فإنهم أرأف بكم من أنفسكم و أحني عليها منكم.

و لا يمنعهم بعد الدار من ذلك إذا بلغتهم الدعوة و وصلتهم الصرخة. كما لا يضيقون من شي ء مهما عظم، لأن مقامهم عند

______________________________

(1) الكافي ج: 4 ص: 589، و اللفظ له. وسائل الشيعة ج: 10 ص: 385- 38.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 59

اللّه تعالي أعظم، و شأنهم أرفع، و دعوتهم مسموعة، و شفاعتهم مقبولة.

فاشكروا اللّه تعالي علي أن هداكم لمعرفتهم و موالاتهم، و وفقكم للتمسك بهم، و الالتجاء إليهم، و جعلكم من المعتصمين بهم، و المنسوبين إليهم.

و عليكم أن تؤكدوا علاقتكم بإمام العصر و صاحب الأمر الحجة المنتظر و القائم المؤمل الإمام المهدي (عجل اللّه تعالي فرجه و صلي عليه و علي آبائه الطاهرين). فإنه الولي المباشر الذي تجري الأمور علي يديه، و تسير بأمره بإذن اللّه تعالي، فأكثروا من ذكره، و تمثلوه في قلوبكم و تحسسوه في وجدانكم و تعاهدوا السلام عليه و زيارته، و اللجأ إليه في حوائجكم، و الاستشفاع به في مهماتكم، و استدفاع البلاء ببركته و رأفته.

و لا

تغفلوا عنه، و عن رفيع مقامه و جليل كرامته علي اللّه تعالي، و عظيم حقه عليكم.

2- أن تجدوا في إحياء مناسباتكم الدينية و إقامتها، كمواليد المعصومين (صلوات اللّه عليهم) و وفياتهم و إطعام الطعام في مناسباتهم، و غير ذلك علي النحو الذي ألفتموه في بلادكم، فإن لها أعظم الأثر في قيام كيانكم الديني و الحفاظ عليه و علي شخصيتكم، و ربطكم بماضيكم و الانشداد به.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 60

و لا سيما مجالس العزاء المذكرة بمصائب أهل البيت عليهم السّلام و ظلامتهم و ما جري عليهم و علي أوليائهم من قبل الطغاة الذين بدلوا دين اللّه تعالي و حرفوا كتابه، و أبطلوا أحكامه، و نقضوا شرائعه، و جدّوا في إطفاء نور أهل بيت الرحمة، و التضييق عليهم، و قتلهم و تشريدهم و اجتياحهم و اجتياح شيعتهم و مواليهم عن جديد الأرض … إلي غير ذلك من الفجائع و المآسي التي لا يحيط بها وصف و لا يستقصيها بيان.

و نؤكد في ذلك علي المناسبات المليئة بالحسرة و المرارة و التي منها تبدأ نقطة التحول في مسار دعوة الحق، كمصيبة الصديقة الزهراء (صلوات اللّه عليها) بفجائعها و مقارناتها. و هي التي فتحت البلاء علي أهل البيت عليهم السّلام و أوليائهم و غيرت مسار الإسلام.

و مصيبة أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة و السلام) الذي هو أول مظلوم مع أنه أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و بسيفه قام عمد الدين الحنيف.

و مصيبة الإمام الكاظم (صلوات اللّه عليه) التي تمتاز بمزيد من الاستهتار و الاستهوان من قبل الظالمين.

أما مصائب الحسين سيد الشهداء (صلوات اللّه عليه) فهي ملحمة الدين العظمي و مصيبته التي

ملأت الدنيا أسي و حرقة

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 61

و فجيعة و مرارة، و استقطبت بهولها المصائب و الرزايا. و عليها تدور الرحي و تسير الأمور.

و إن لإحياء هذه المناسبات- بل المناسبات الدينية بأجمعها ثمرات عظيمة و فوائد جليلة فهو..

(أولا): يكون عزاء لكم و سلوة عن مصائبكم و محنكم، و يرفع معنوياتكم، و يشد من عزائمكم و يزيدكم صبرا و ثباتا، و صلابة و تصميما، فإنهم (صلوات اللّه عليهم) خير قدوة لكم، و أسمي مثل و أفضل أسوة. و قد ورد في نصوص كثيرة أن من أصيب بمصيبة فليذكر مصابه برسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإنها أعظم المصائب «1».

و في حديث أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السّلام:

«قال: إن إسماعيل كان رسولا نبيا سلط اللّه عليه قومه فقشروا جلدة وجهه و فروة رأسه، فأتاه رسول من عند رب العالمين، فقال له: ربك يقرؤك السلام و يقول: قد رأيت ما صنع بك. و قد أمرني بطاعتك، فمرني بما شئت، فقال: يكون لي بالحسين عليه السّلام أسوة» «2».

و قد صدق من قال:

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 ص: 911.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 ص: 910.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 62

أنست رزيتكم رزايانا التي سلفت و هونت الرزايا الآتية

و خصوصا إذا نظرتم إلي عاقبة تلك المصائب و المحن التي كتبها اللّه تعالي عليهم حين استسلموا لها و صبروا عليها، و رأيتم كيف صارت العاقبة لهم، فنصرهم اللّه تعالي علي عدوهم، بأن أبقي ذكرهم، و أحيي أمرهم، و رفع شأنهم، و أعلا نورهم، حتي طبق الأرض و ملأ الخافقين. و باء الظالمون بالفشل الذريع و العاقبة الوخيمة و الخيبة و الخسران و اللعنة

الدائمة في الأرض و السماء.

و تذكرتم قول عقيلة بني هاشم زينب الكبري (صلوات اللّه تعالي عليها) للإمام زين العابدين (عليه أفضل الصلاة و السلام) و هي في قمة المأساة- حين مروا بهم علي شهداء كربلاء و هم موزعون علي وجه الأرض-: «و لقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، و هم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة، فيوارونها، و هذه الجسوم المضرجة. و ينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء عليه السّلام لا يدرس أثره و لا يعفو رسمه، علي كرور الليالي و الأيام.

و ليجتهدن أئمة الكفر و أشياع الضلالة في محوه و تطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهورا و أمره إلا علوا» «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 28 ص: 57.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 63

و قولها ليزيد و هي أسيرة في مجلسه: «فكد كيدك واسع سعيك و ناصب جهدك، فو اللّه لا تمحو ذكرنا، و لا تميت و حينا، و لا تدرك أمدنا، و لا ترحض «1» عنك عارها. و هل رأيك إلا فند، و أيامك إلا عدد، و جمعك إلا بدد، يوم يناد المناد: ألا لعنة اللّه علي الظالمين» «2».

و قد صدق اللّه عز و جل حين يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ يَأْبَي اللّٰهُ إِلّٰا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ «3»، و حين يقول: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ «4».

(و ثانيا): أنه يزيد في ثقافتكم الدينية، و تمسككم بدينكم، حيث يتجلي لكم بها مقام أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) و فضلهم و فضائلهم، و عظيم شأنهم، و كرامتهم علي اللّه تعالي، و شدة علاقتهم به، و تضحيتهم في سبيله

و سبيل دينه و النصيحة لعباده.

كما تتجلي لكم شدة ظلامتهم و المحن التي قاسوها، و المصائب التي صبت عليهم و علي أوليائهم في سبيل ذلك.

و ذلك كله يزيد في ولائكم لهم، و حبكم إياهم، و تعلقكم بهم.

______________________________

(1) يعني: لا تغسل عنك عارها.

(2) بحار الأنوار ج: 45 ص: 135.

(3) سورة التوبة الآية: 32.

(4) سورة هود الآية: 49.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 64

كما يتجلي بذلك خبث الظالمين و عداءهم للّه تعالي، و بشاعتهم و وحشيتهم، و سقوطهم في حضيض الجريمة، و إمعانهم في الاستهتار، و ضحالتهم نفسيا و سلوكيا. فيزيدكم ذلك نفرة منهم، و بعدا عنهم و عداء لهم، و تشتد بصيرتكم في البراءة منهم و من أوليائهم و أشياعهم.

و بذلك يكمل دينكم و يتم إيمانكم، كما تظافرت النصوص عن المعصومين (صلوات اللّه عليهم).

ففي صحيح أبي عبيدة الحذاء عن الإمام الصادق عليه السّلام:

«قال: من أحب للّه و أبغض للّه و أعطي للّه فهو ممن كمل إيمانه» «1».

و في صحيح سعيد الأعرج عنه عليه السّلام: «قال: من أوثق عري الإيمان أن تحب في اللّه، و تبغض في اللّه، و تعطي في اللّه، و تمنع في اللّه» «2».

و في حديث عمرو بن مدرك الطائي عنه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: أيّ عري الإيمان أوثق؟ فقالوا: اللّه و رسوله أعلم. و قال بعضهم: الصلاة. و قال بعضهم: الزكاة.

و قال بعضهم: الصوم. و قال بعضهم: الحج و العمرة. و قال بعضهم: الجهاد. فقال رسول اللّه عليه السّلام: لكل ما قلتم فضل، و ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 431.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 431.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 65

به.

و لكن أوثق عري الإيمان الحبّ في اللّه، و البغض في اللّه، و توالي أولياء اللّه، و التبري من أعداء اللّه» «1».

و في حديث إسحاق بن عمار عنه عليه السّلام: «قال: كل من لم يحب علي الدين و لم يبغض علي الدين فلا دين له» «2» … إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة.

و علي جميع المؤمنين أن يعرفوا أن هذا من أهم الركائز الدينية التي يلزمهم تعاهدها و المحافظة عليها، و الحذر من إغفالها و إهمالها، أو التسامح فيها، حيث قد يجر ذلك للتهاون مع الظالمين، و التساهل معهم، بل الميل لهم، و محاولة الاعتذار عنهم.

فيخرج المؤمن بذلك- لا سمح اللّه تعالي- عن إيمانه من دون أن يريد، و يسرق منه دينه في غفلة. و قد قال اللّه سبحانه و تعالي: لٰا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ «3»، و نعوذ باللّه تعالي من الضلال بعد الهدي، و العمي بعد البينة.

أما أنتم- أيها المغتربون- فالأمر فيكم أشد، لأنكم في مجتمع مادي متحلل تائه، لا يعرف حقا من باطل، و لا ضلالا من رشاد، قد خذله اللّه تعالي و أعرض عنه، فهو لا يبالي أن يستهان بأنبياء اللّه تعالي و أوليائه، و يسخر منهم، و أن يمجّد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 439.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 440.

(3) سورة المجادلة الآية: 22.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 66

أعداء اللّه- من الجبابرة و الفجار و المتحللين- و يكرّموا، و يتشبه بهم إعجابا و اعتزازا.

فإذا لم تحصنوا أنفسكم و تتشبثوا بمثلكم و بمقدساتكم أعرض اللّه جل شأنه عنكم و وكلكم

إلي أنفسكم. فاعرفوا للّه تعالي حرمته، و أرعوا حقه، وضعوه أمام أعينكم، و تمسكوا بدينه، و والوا أولياءه، و عادوا أعداءه، و جدوا في أمركم.

و توكلوا علي ربكم و اعتصموا به، و ألجئوا إليه جل شأنه في أن يرعاكم و يعينكم و يأخذ بناصركم، و يثبتكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة، و يزيدكم إيمانا و يقينا و إذعانا و تسليما.

إنه أرحم الراحمين، و غوث اللاجئين، و عصمة المعتصمين.

(و ثالثا): أنه من أعمدة الدين المتينة و قواعده الصلبة و دعائمه الرفيعة، فقد أثبت- عبر التاريخ الطويل الملي ء بالمآسي و المحن- جدارته و فاعليته في تشييد المذهب الحق، و تثبيته، و الحفاظ عليه و ترويجه، و الدعوة له، و نشره، و بيان حقه و حقيقته.

و لذا وقف الطغاة و الظالمون و أذنابهم- من عصور الإسلام الأولي- من إحياء تلك المناسبات أشدّ المواقف و أقساها، حيث جدّوا في عيبه و التشنيع عليه، بل تحريمه و منعه، و تخويف من يقوم بذلك و التنكيل به، في محاولة منهم لإطفاء نور اللّه تعالي الذي أبي إلا أن يتمه و هم كارهون.

فاتخذوا تلك المناسبات شعارا يجمع كلمتكم، و يثبت وحدتكم، و يحييكم و يحكم ألفتكم، و منارا يضي ء طريق الناس

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 67

إليكم في دعوتهم لدين اللّه تعالي الحق و تنبيههم إليه و توجيههم لوجهته.

و حاولوا بوداعة و ترسل الاحتكاك مع الناس الذين تعيشون بين أظهرهم عند إقامة تلك الشعائر، و إلفات أنظارهم لها، بل إشراكهم فيها بما تيسر لكم من ذلك. فإن آثارها الشريفة و بركاتها المتوالية قد تصل لهم، و يتحسسونها تحسسا يحملهم علي الاعتراف بها و الإذعان بحقيتها و بصدق منابعها و

أصولها.

و قد ينتهي الأمر بهم إلي الوصول من طريقها إلي الدين الحنيف و المذهب الشريف، كما انتهي الأمر لذلك في كثير من شعوب الأرض و أممها. و لا سيما مع الفراغ الروحي في تلكم المجتمعات التي أنتم فيها، حيث قد يكون ذلك سببا لتعطشهم للروحيات، و تلقفهم هذه الحقيقة الأصيلة الصافية المدعومة من قبل اللّه تعالي بالتسديدات و التأييدات، و الآيات الظاهرة و الكرامات الباهرة.

و تكونون بذلك من دعاة دين اللّه تعالي و أنصاره، و تفوزون بفخر ذلك و عظيم أجره وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «1». و لا تستبعدوا شيئا، و لا تستقلوا عملا، فإن اللّه تعالي يفعل ما يشاء، و يقضي ما يريد.

______________________________

(1) سورة العنكبوت الآية: 69.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 68

و من أجل أهمية إحياء هذه المناسبات و تجديد ذكر أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) و بيان فضلهم و مصائبهم، و عظيم آثاره و شرفها، ورد الحث علي ذلك منهم (صلوات اللّه عليهم) قولا و عملا بصورة عجيبة و مضامين عالية مذهلة لا يستقصيها المقام، يحسن بنا أن نذكر نماذج منها تضي ء لنا الطريق، و تهدينا السبيل.

ففي حديث الأربعمائة الشريف المشهور عن أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) قال: «إن اللّه تبارك و تعالي اطلع إلي الأرض، فاختارنا، و اختار لنا شيعة ينصروننا، يفرحون لفرحنا، و يحزنون لحزننا، و يبذلون أموالهم و أنفسهم فينا، أولئك منا و إلينا» «1».

و في صحيح يزيد بن عبد الملك عن الإمام الصادق عليه السّلام:

«قال: تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم و ذكرا لأحاديثنا، و أحاديثنا تعطف بعضكم علي بعض. فإن أخذتم بها رشدتم و نجوتم، و إن تركتموها ضللتم و

هلكتم، فخذوا بها و أنا بنجاتكم زعيم» «2».

و في صحيح ميسر عن الإمام الباقر عليه السّلام: «قال لي: أ تخلون و تتحدثون و تقولون ما شئتم؟ فقلت: إي و اللّه إنا لنخلو و نتحدث

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 10 ص: 114.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 567.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 69

و نقول ما شئنا. فقال: أما و اللّه لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن. و أما و اللّه أني لأحب ريحكم و أرواحكم. و إنكم علي دين اللّه و دين ملائكته، فأعينوا بورع و اجتهاد» «1».

و في حديث معتب عن الإمام الصادق عليه السّلام: «سمعته يقول لداود ابن سرحان: يا داود أبلغ موالي عني السلام، و إني أقول:

رحم اللّه عبدا اجتمع مع آخر فتذاكرا أمرنا، فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما. و ما اجتمعا اثنان علي ذكرنا إلا باهي اللّه تعالي بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإن في اجتماعكم و مذاكرتكم إحياءنا، و خير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا، و دعا إلي ذكرنا» «2».

و في حديث الحسن بن فضال: «قال الرضا عليه السّلام: من تذكر مصابنا و بكي لما أرتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، و من ذكر بمصابنا فبكي و أبكي لم تبك عينه يوم تبكي العيون، و من جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» «3».

و في صحيح محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السّلام: «قال:

كان علي بن الحسين عليهما السّلام يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 567.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 568- 569.

(3) بحار الأنوار ج: 44 ص: 278.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 70

الحسين بن علي

عليه السّلام حتي تسيل علي خده بوأه اللّه بها غرفا يسكنها أحقابا. و أيما مؤمن دمعت عيناه حتي تسيل علي خده فيما مسنا من الأذي من عدونا في الدنيا بوأه اللّه بها مبوأ صدق، و أيما مؤمن مسه أذي فينا فدمعت عيناه حتي تسيل علي خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف اللّه عن وجهه الأذي، و آمنه يوم القيامة من سخطه و النار» «1».

و في حديث زيارة عاشوراء المشهورة عنه عليه السّلام مع مالك الجهني بعد أن تعرّض لزيارته من بعيد قال: «ثم ليندب الحسين عليه السّلام و يبكيه، و يأمر من في داره ممن لا يتقيه بالبكاء عليه، و يقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه، و ليعز بعضهم بعضا بمصابهم بالحسين عليه السّلام. و أنا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك علي اللّه عز و جل جميع ذلك. يعني: ثواب ألفي حجة و ألفي عمرة و ألفي غزوة. قلت: أنت الضامن لهم ذلك و الزعيم؟ قال: أنا الضامن و الزعيم لمن فعل ذلك … و إن استطعت أن لا تنشر يومك في حاجة فافعل فإنه يوم نحس … فإذا فعلوا ذلك كتب اللّه لهم ثواب ألف حجة و ألف عمرة و ألف غزوة كلها مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و كان له كثواب كل نبي و رسول و صديق و شهيد مات أو قتل منذ خلق اللّه الدنيا إلي أن تقوم الساعة … » «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 392.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 ص: 398- 399.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 71

و في حديث أبي هارون المكفوف عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «يا أبا

هارون أنشدني في الحسين عليه السّلام، قال: فأنشدته.

قال: فقال لي: انشدني كما تنشدون، يعني: بالرّقة. قال: فأنشدته [شعر]:

أمرر علي جدث الحسي ن فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكي. ثم قال: زدني فأنشدته القصيدة الأخري. قال:

فبكي، و سمعت البكاء من خلف الستر. قال: فلما فرغت. قال:

يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعرا فبكي و أبكي عشرة كتبت لهم الجنة، و من انشد في الحسين شعرا فبكي و أبكي خمسة كتبت لهم الجنة. و من أنشد في الحسين شعرا فبكي و أبكي واحدا كتبت لهما الجنة. و من ذكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدمع مقدار جناح ذباب كان ثوابه علي اللّه عز و جل، و لم يرض له بدون الجنة» «1» … إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة المشتملة علي مضامين مرغّبة، عالية مذهلة، لا تبقي مقالا لقائل و لا عذرا لمعتذر.

و بهذا التأكيد و الترغيب استطاع الأئمة (صلوات اللّه عليهم) أن يوجهوا شيعتهم هذه الوجهة المباركة بجدّ و جهد عظيمين، غير مبالين بالمتاعب و المصائب و الزلازل و النوازل، حتي دارت علي ذلك رحاهم، و استمرت عليه سيرتهم. و فتحوا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 44 ص: 288.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 72

به الفتح العظيم في مجال العقيدة و التثقيف المذهبي. و نسأل اللّه جل شأنه أن يثبتنا و جميع شيعتهم علي ذلك و غيره من توجيهات و تعاليم أئمتنا (صلي اللّه عليهم)، و جزاهم عنا خير جزاء الناصحين، و أحيانا محياهم، و أماتنا مماتهم، و حشرنا في زمرتهم.

إنه أرحم الراحمين و ولي المؤمنين.

نعم ينبغي للمؤمنين جميعا- و لكم أيها المغتربون خصوصا- الاهتمام بأمرين:

(أحدهما): المحافظة علي قدسية هذه المناسبات، و احتشامها و هيبتها، و إبعادها عن

مظاهر التحلل و الميوعة و الترف، و الأشر و البطر، حتي لو لم تبلغ مرتبة الحرمة، فضلا عما إذا بلغها، كالموسيقي و التبرج. فإنها مناسبات دينية روحانية يفترض فيها أن تذكر باللّه تعالي و بقدسية أوليائه و أصفيائه. فلا بد أن تكون بالصورة المناسبة لهم.

و هذا يجري حتي في مناسبات الأفراح، لأنها أفراح تتعلق بزمرة القدسيين المقربين إلي اللّه تعالي، الذين هم سفراؤه، الناطقون عنه و المذكرون به. علي أن أفراحنا تنتهي أخيرا إلي الأحزان و الحسرات، و تذكر بها، لأنها تتعلق بسادة أصفياء مظلومين مضطهدين انتهي الأمر بهم للمآسي و الرزايا. فنحن في الوقت الذي نفرح فيه لإنعام اللّه تعالي علي البشرية بهم، و علي

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 73

توفيقنا لموالاتهم و الانتساب لهم، نأسي علي ما أصابهم و أصاب البشرية عامة، نتيجة حرمانها من خيراتهم.

و إنا للّه و إنا إليه راجعون.

(ثانيهما): التركيز علي جانب المأساة و الدمعة، خصوصا في مجالس العزاء. فإن المقصود بهذه المجالس، و إن كان هو ذكر أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، و بيان رفيع مقامهم عند اللّه تعالي، و جهادهم في سبيله، و المصائب التي لاقوها هم و شيعتهم و أولياؤهم، و ما جري عليهم من الظالمين، و ما عليه الظالمون من السقوط و الجريمة بجميع وجوهها. مع بيان تعاليم أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) و توجيهاتهم القولية في أحاديثهم و خطبهم، و العملية في سيرتهم و سلوكهم، و التثقيف الديني عموما.

فإن ذلك كله من إحياء أمرهم (عليهم أفضل الصلاة و السلام) الذي أكدوا عليه في النصوص السابقة و غيرها. إلا أن إثارة الجو العاطفي ببيان المأساة و استدرار الدمعة ادعي في تركيز ذلك و تفاعل النفوس به،

و في انشدادها لهم و تعلقها بهم (صلوات اللّه عليهم) و رفضها للظالمين و أهل اللعنة و مباينتها لهم و براءتها منهم.

و من ثم أكدت النصوص الواردة عنهم- السابقة و غيرها- علي ذلك، بل من ينظر في سيرة أئمتنا (أرواحنا فداهم) و سلوكياتهم و يستوعبها يدرك منهم الاهتمام بهذا الجانب بوجه

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 74

مذهل، و يري منهم تحري مواقع إثارة الحزن و العاطفة و استدرار الدمعة بصورة عجيبة محيرة و ملفتة للنظر، تشهد بسمو الغاية من ذلك و جليل فائدته و عظيم بركاته.

فلا ينبغي إهمال هذا الجانب في تلك المجالس و المناسبات أو المرور به مرورا عابرا من دون أن يأخذ حجما معتدا به منها يناسب أهميته الكبري. فإنها مآتم قبل أن تكون مجالس، و مجالس عزاء قبل أن تكون مجالس تثقيف و إرشاد. و إن كان التثقيف و الإرشاد ضروريين فيها يترتبان عليها بوجهها الأكمل إذا أتي بها علي وجهها الذي شرعت له و بنيت عليه.

و قد أطلنا الكلام في هذا الموضوع لأهميته العظمي في كيان الطائفة الحقة و تشييد بنيانها.

و نسأل اللّه سبحانه و تعالي التوفيق و التسديد، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 75

و تتشبثوا بها بحزم و إصرار تحللتم منها تدريجيا، و فارقتكم إلي غير رجعة، و صهرتكم تلك المجتمعات و ذبتم فيها. و كانت عاقبة ذلك.

(أولا): غضب اللّه تعالي و خذلانه و عظيم عقابه، و شديد نكاله، فإن اللّه عز و جل غيور قد أدب عباده و حدّ حدوده لهم، فمن تجاوزها تعرض لنقمته التي لا يقوم لها شي ء. و ما ورد من الوعيد علي آحاد تلك المحرمات لا يحصيه البيان، فكيف بالتيه في ذلك المتاه الواسع و التوحل في ذلك المستنقع الملي ء بالرذائل و المتوغل بالانحراف الخلقي. و قد منّ اللّه تعالي عليكم بمعرفته و وفقكم لحمل دعوته، فصارت الحجة عليكم أعظم، و تكون جريمتكم بسببها أكبر.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 76

و في موثق عباد بن صهيب عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال:

يقول اللّه عز و جل: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني» «1».

(و ثانيا): التفاهة و الضحالة و التردي في حضيض الحيوانية، بل أسفل من ذلك و أتفه. ففي صحيح عبد اللّه بن سنان: «سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام: إن اللّه ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، و ركب في البهائم شهوة بلا عقل، و ركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، و من غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم» «2».

(و ثالثا): المشاكل و المضاعفات الخطيرة التي تنجم عن ذلك، التي أصبحت خطرا يهدد كيان تلك المجتمعات، و لا يتيسر لها التخلص منه و الانفلات عنه.

(و رابعا): التبعية و اضمحلال الشخصية، فإنكم

إن انجرفتم بهذا الاتجاه و اندفعتم فيه صرتم مقلدين تابعين تمشون وراءهم و لا تدركونهم، لأنهم في حضيض الانحلال. و إن أدركتموهم- لا سمح اللّه تعالي- و بلغتم إلي ما بلغوا، فيا لها من تبعية خاسرة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 242.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 164.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 77

و حبذا التبعية في مكارم الأخلاق و جميل الصفات و حسن السلوك، فإن الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها التقطها.

أما إذا تماسكتم، و تشبثتم بعفتكم و حشمتكم، و تعاهدتم أخلاقياتكم و مثلكم، و انحزتم عنهم بذلك، تميزت شخصيتكم، بنحو يلفت أنظارهم، و فرضتم احترامكم عليهم، و هيبتكم في نفوسهم. فإن النفوس مهما انحطت و كابرت مجبولة علي احترام العفة و الاحتشام و الالتزام، و استهجان التحلل و التخلع و الابتذال.

و إذا مرت أدوار حاولت فيها أصوات العلمانية المادية إضفاء صفة التقدم و الرقي و التحرر علي التحلل و التخلع و الابتذال، فإنها أصوات جوفاء لا تقرها نوازع النفوس و الوجدان، خصوصا بعد أن ذهب بريق تلك الدعوة بطول المدة و ظهور السلبيات و المضاعفات الخطيرة منها.

و لا زلنا نذكر ما نشرته بعض الصحف بمناسبة الحملة الأولي ضدّ الحجاب في فرنسا عن بعض المثقفين الفرنسيين، حيث كانت حجته في الدعوة لمنع الحجاب أن في ذلك انتصارا لكرامة الفرنسيين أنفسهم، لأن المسلمين بحجابهم يعلنون عمليا تحلل الفرنسيين و ابتذالهم و احتقارهم.

و من ذلك يظهر فرض الحقيقة نفسها و إقرار الضمائر بها رغم الدعوات القديمة للسفور باسم الترقي و التقدم و الحضارة،

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 78

حيث يشعر أصحاب تلك الدعوة بأن في تعريض المسلمين بالفرنسيين، و تنبيههم لسفورهم و تبذلهم، احتقارا لهم و از

دراء بهم، و ما ذلك إلا لأن السفور و التبذل و صمة عار يكون في التنبيه له و التعريض به توهين لصاحبه و حطّ من كرامته.

علي أن التزامكم بالاحتشام و العفة و تميزكم بهما قد يجعلكم نورا في ظلمات تلك المجتمعات يستضي ء به التائهون، و علما للخير و الإنسانية فيها يسترشد به الضالون، و سبب هداية من اللّه تعالي يهدي بها عباده، و باب رحمة يفتحها لهم. و لأن يهدي اللّه تعالي بكم رجلا واحدا خير لكم مما طلعت عليه الشمس، و التوفيق من اللّه تعالي.

و الأمل بكم أن لا تقتصروا علي اجتناب المحرمات- كالسفور و الاختلاط المحرم و ممارسة الجنس الحرام- بل تبعدوا عن مواقع التخلع و التبذل و التحلل علي اختلاف وجوهها و صورها و ترفعوا أنفسكم عن القرب منها. و لا تحاولوا أن تتشبثوا بالرخص أو تسمعوا بعض الأصوات الانحرافية أو الانهزامية الداعية للتساهل و التخفيف. فإن في بعدكم عن المواقع المذكورة و مجانبتكم لها..

1- تثبيت شخصيتكم و تأكيد عفتكم و احتشامكم، كما سبق.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 79

2- تحصينكم عن الحرام، فإن الإنسان مهما وثق من نفسه قد يغلب علي أمره فيقع في الحرام إذا قرب من مواقعه و سهل عليه ارتكابه، و يكون بعده عن مواقعه حاجزا طبيعيا يؤمنه منه.

3- تثبيت إنكار المنكر و استبشاع الحرام في نفوسكم، فإن المؤمن كما يجب عليه إنكار المنكر علي غيره مع قدرته يجب عليه أن ينكر المنكر في نفسه و يحملها علي استهجانه و استبشاعه، لما فيه من مضادة اللّه تعالي و انتهاك حرماته و تعدي حدوده. و كلما قرب الإنسان من مواقع الحرام و خالط أهله و ألف وجوده هان عليه

و خف إنكاره له، و ضعف داعي الدين في نفسه، و خبا نور الإيمان في قلبه، حتي قد يبلغ الأمر أن يصير المنكر معروفا و الباطل حقا، فتموت القلوب و يطبع اللّه تعالي عليها، و نعوذ باللّه تعالي من خذلانه.

4- الردع العملي لبعض الأفراد منكم الذين قد تسول لهم أنفسهم التورط فيها و الخوض في مستنقعاتها، فإنهم إذا رأوا إخوانهم يتعففون عنها، و يستنكرونها يكون ذلك ادعي لهم إلي مجانبتها، فتكونون بذلك قد أمرتم بالمعروف و أنكرتم المنكر، و هما من فرائض الإسلام الكبري.

علي أن مواضع معصية اللّه تعالي و انتهاك حرماته، حرية بغضبه و لعنته، و قد تنزل اللعنة و النقمة عليها فتعم من فيها و لو من غير أهلها. قال اللّه تعالي: وَ إِذٰا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 80

آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰي يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطٰانُ فَلٰا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْريٰ مَعَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ «1».

و في حديث عبد اللّه بن صالح عن الإمام الصادق عليه السّلام:

«قال: لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلسا يعصي اللّه فيه و لا يقدر علي تغييره» «2».

و في صحيح عبد اللّه بن ميمون القداح عنه عليه السّلام: «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من كان يؤمن باللّه و باليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة» «3».

و في صحيح الجعفري: «سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: ما لي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ فقال: إنه خالي. فقال: إنه يقول في اللّه قولا عظيما، يصف اللّه، و لا يوصف. فإما جلست معه و تركتنا، و إما جلست معنا و تركته. فقلت: هو يقول ما شاء، أي شي ء عليّ منه إذا لم أقل ما

يقول؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام:

أ ما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا؟ أ ما علمت بالذي كان من أصحاب موسي عليه السّلام، و كان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خيل فرعون بموسي تخلف عنه ليعظ أباه، فيلحقه بموسي عليه السّلام، فمضي أبوه و هو يراغمه حتي بلغا طرفا من

______________________________

(1) سورة الأنعام الآية: 68.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 503.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 504.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 81

البحر فغرقا جميعا، فأتي موسي الخبر، فقال: هو في رحمة اللّه، و لكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع» «1».

و في صحيح أبي حمزة عن الإمام الباقر عليه السّلام: «سمعته يقول: أما إنه ليس من سنة أقل مطرا من سنة، و لكن اللّه يضعه حيث يشاء. إن اللّه جل جلاله إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدر لهم من المطر في تلك السنة إلي غيرهم و إلي الفيافي و البحار و الجبال، و إن اللّه ليعذب الجعل في جحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلتها، لخطايا من بحضرتها، و قد جعل اللّه لها السبيل إلي مسلك سوي محلة أهل المعاصي. قال:

ثم قال أبو جعفر عليه السّلام: فاعتبروا يا أولي الأبصار … » «2».

و لا يخدعنكم الشيطان و أولياؤه بأن اللّه قد نعّم أهل المجتمعات التي أنتم فيها بخيرات الدنيا و زينتها. و تيقنوا أنها نعم تحولت نقما بسلبياتها و مضاعفاتها، حتي انتهي الأمر بهم إلي مشاكل حادة نتيجة الترف و إشباع الغرائز الحيوانية.

علي أنها قد ألهتهم عن اللّه تعالي و أنستهم ذكره، فاستحوذ عليهم الشيطان، و غرقوا في معصية اللّه تعالي و تمادوا في سكرتهم،

فأعرض سبحانه عنهم و وكلهم إلي أنفسهم و أمهلهم، و إن من أشد عقوبات اللّه تعالي لعباده إمهالهم و الإملاء لهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 71 ص: 200، و اللفظ له. وسائل الشيعة ج: 11 ص: 503.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 501.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 82

قال اللّه تعالي: وَ لٰا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ «1».

و قال سبحانه: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّٰي حِينٍ. أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ. نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرٰاتِ بَلْ لٰا يَشْعُرُونَ «2».

و قال عز و جل: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لٰا يَعْلَمُونَ. وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «3».

و في حديث سفيان بن السمط عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «إن اللّه إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة و يذكّره الاستغفار، و إذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة، لينسيه الاستغفار و يتمادي بها. و هو قول اللّه عز و جل: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لٰا يَعْلَمُونَ بالنعم عند المعاصي» «4» … إلي غير ذلك من النصوص.

و علي ذلك يتأكد عليكم أن تبعدوا أنفسكم عن تلك المواضع و نحوها، و عن مخالطة تلك المجتمعات الفاسدة تحرجا و ترفعا و تنزها و تعففا. إلا أن تضطروا لذلك أو تبرره حاجة و

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية: 178.

(2) سورة المؤمنون الآية: 54- 56.

(3) سورة الأعراف الآية: 182- 183.

(4) بحار الأنوار ج: 5 ص: 217.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 83

مصلحة راجحة، فتقتصروا منه علي ما تؤدي به الضرورة، فإن الضرورات تقدر بقدرها. لكن مع كمال الإنكار و الاستهجان لها و

رفضها في نفوسكم، ليعلم اللّه منكم صدق النية في طاعته، و التورع عن محارمه، و الغضب له، و الإنكار لمعصيته.

و استبدلوا بها مواضع ذكر اللّه و مجامع الخير و الهدي و الصلاح. و عليكم أن تحاولوا إيجاد مجامع، و مواضع ترفيه و تجمّع لكم، تناسب وضعكم الديني و الأخلاقي و الاجتماعي- و لو علي نطاق ضيق- تزيدكم تعلقا بواقعكم الذي ألفتموه في بلادكم، و تمسكا بدينكم العظيم، و مثلكم الشريفة، و أخلاقكم الفاضلة. و اللّه سبحانه و تعالي معكم إن لزمتموه و راقبتموه، و هو المعين لكم في محنتكم و الرحيم بكم في دنياكم و آخرتكم.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 84

من مجابهتهم بالرد، و ما يترتب علي ذلك من تشويه صورتكم أمامهم، و نظرتهم إليكم

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 85

نظرة سلبية، لخروجكم- حسب نظرهم- عن أصول المعاشرة و آدابها، و للضرورات حكمها. فإن في الجري علي ذلك و الاستسلام له من شعورهم نحوكم بالخروج عن جميل المعاشرة و حسن المخالطة، انهيارا لشخصيتكم، و مخالفة لدينكم، و انتهاكا لحرمة ربكم، و سببا لخذلانه و نقمته، و ضياعا للحق و الحقيقة في خضم الفساد و الانحلال. و كلما طالت المدة كان التراجع أصعب.

نعم عليكم أن تحسنوا التصرف معهم، و توضحوا بلطف و حكمة وجهة نظركم و مبررات امتناعكم، و تلفتوهم بالحسني إلي أن امتناعكم من مجاراتهم في تلك العادات ليس استهوانا بهم، و لا سوء عشرة معهم، بل من أجل التزاماتكم الشريفة و تعاليمكم المقدسة، حتي إذا اتضح ذلك لهم ارتفعتم في أعينهم، و فرضتم احترامكم و شخصيتكم عليهم، و نظروا إليكم نظرة الإجلال و الإكبار، لأن النفوس مجبولة علي احترام ذوي المبادئ و الالتزام و أهل الشخصية القوية الثابتة.

و بذلك تتضح الحقيقة علي طول الزمن و تستحكم أعرافكم و تشيع بينهم، فلا يستنكرونها، و يسهل عليكم الجري عليها من دون حرج، بل مع كمال العزة و الفخر.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 86

و المنتسبين إليها و سيئاتهم، و لا تفرق بينهما في ذلك، مغفلة المميزات الطبيعية لحملتها و المنتسبين إليها، و ميولهم الشخصية، و ظروفهم العامة و الخاصة. و أنتم رسل الإسلام في تلك البلاد و ممثلوا الإيمان و الهدي في تلك المجتمعات، و هما الأمانة في أيديكم. فعليكم أن تجهدوا في الدعوة إليهما بجميل سيرتكم و حسن سلوككم، و لا تكونوا سبب عار و بلاء عليهما.

(و ثالثا): له أعظم الأثر علي نجاحكم في حياتكم، و تيسير الأمور لكم، خصوصا علي الأمد البعيد، لأن حسن المعاشرة و المخالطة من أهم الأسباب لتحببكم للناس، و ثقتهم بكم، و انفتاحهم لكم، و تجاوبهم معكم.

و من هنا نلفت نظركم لأمور مهمة تتعلق بذلك..

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 87

1- إن من أهم مكارم الأخلاق الواجبة بمقتضي الفطرة، و التي أكد عليها الإسلام العظيم في القرآن المجيد و أحاديث النبي الأمين صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة من آله عليهم السّلام، صدق الحديث و حفظ العهد و أداء الأمانة للبر و الفاجر، و اجتناب الغش و الخديعة و المكر و الخيانة.

قال اللّه تعالي: وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ «1».

و قال سبحانه: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «2».

و قال عز من قائل: إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا «3».

و قال تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَخُونُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «4».

و عن الإمام الباقر عليه السّلام: «قال: كان علي بن الحسين عليهما السّلام يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه و الكبير في كل جدّ و هزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ علي الكبير. أ ما

علمتم أن

______________________________

(1) سورة البقرة الآية: 10.

(2) سورة الإسراء الآية: 34.

(3) سورة النساء الآية: 58.

(4) سورة الأنفال الآية: 27.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 88

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال: ما يزال العبد يصدق حتي يكتبه اللّه صديقا، و ما يزال العبد يكذب حتي يكتبه اللّه كذابا» «1».

و في موثق عنبسة بن مصعب عن الإمام الباقر عليه السّلام قال:

«ثلاث لم يجعل اللّه لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلي البرّ و الفاجر، و الوفاء بالعهد للبر و الفاجر، و بر الوالدين برين كانا أو فاجرين» «2».

و في صحيح الحسين بن أبي العلاء عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال: إن اللّه عز و جل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث و أداء الأمانة إلي البر و الفاجر» «3».

و في صحيح أبي حمزة الثمالي: «سمعت سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام يقول لشيعته: عليكم بأداء الأمانة. فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا لو أن قاتل أبي الحسين بن علي عليهما السّلام ائتمنني علي السيف الذي قتله به لأديته إليه» «4».

و في حديث أبي كهمس: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: عبد اللّه ابن أبي يعفور يقرؤك السلام. قال: و عليك و عليه السلام. إذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 577. بحار الأنوار ج: 69 ص: 235.

________________________________________

حكيم، سيد محمد سعيد طباطبايي، مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، در يك جلد، دفتر حضرت آية الله، نجف اشرف - عراق، اول، 1422 ه ق مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي؛ ص: 88

(2) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 206- 207.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 ص: 223.

(4) وسائل الشيعة ج: 13 ص: 225.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي،

ص: 89

أتيت عبد اللّه فاقرأه السلام، و قل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عند رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فالزمه، فإن عليا عليه السّلام إنما بلغ ما بلغ به عند رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بصدق الحديث و أداء الأمانة» «1».

و في صحيح عبد الرحمن بن سيابة عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال: ألا أوصيك؟ قلت: بلي. قال: عليك بصدق الحديث و أداء الأمانة، تشرك الناس في أموالهم … » «2».

و في حديث الأصبغ بن نباتة: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام ذات يوم و هو يخطب علي المنبر بالكوفة: يا أيها الناس لو لا كراهية الغدر كنت من أدهي الناس، ألا إن لكل غدرة فجرة، و لكل فجرة كفرة. ألا و أن الغدر و الفجور و الخيانة في النار» «3».

و عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال لرجل يبيع الدقيق: «إياك و الغش، فإنه من غش غش في ماله، فإن لم يكن له مال غش في أهله» «4» … إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة.

2- أكد الإسلام علي حسن الخلق مع الناس عموما، و علي معاشرتهم بالمعروف، و أداء الحقوق، و الطلاقة، و بشر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 13 ص: 218.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 ص: 219.

(3) بحار الأنوار ج: 41 ص: 129. وسائل الشيعة ج: 11 ص: 52.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 209.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 90

الوجه. و قد مدح اللّه تعالي نبيه العظيم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بذلك حيث قال:

وَ إِنَّكَ لَعَليٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ «1».

كما تميز بذلك أهل بيته الطيبون و عرفوا به،

فضربوا بذلك أروع الأمثلة و أعلاها. بل عرف بذلك شيعتهم و أولياؤهم.

قال ابن أبي الحديد في ترجمة أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) بعد أن ذكر جملة من فضائله المعروفة و مناقبه المشهورة:

«و أما سجاحة الأخلاق، و بشر الوجه، و طلاقة المحيا، و التبسم، فهو المضروب به المثل فيه، حتي عابه بذلك أعداؤه. قال عمرو ابن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة … و عمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب، لقوله لما عزم علي استخلافه: للّه أبوك لو لا دعابة فيك. إلا أن عمر اقتصر عليها، و عمرو زاد فيها و سمّجها.

قال صعصعة بن صوحان و غيره من شيعته و أصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، و شدة تواضع، و سهولة قياد، و كنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف علي رأسه … و قد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه و أوليائه إلي الآن، كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر. و من له أدني معرفة بأخلاق الناس و عوائدهم يعرف ذلك» «2».

______________________________

(1) سورة القلم الآية: 4.

(2) شرح نهج البلاغة ج: 1 ص: 25- 26. بحار الأنوار ج: 41 ص: 147.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 91

و النصوص عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام في الحثّ علي ذلك كثيرة. ففي موثق الحسن بن راشد عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه و حسن البشر» «1».

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «خالطوا الناس مخالطة، إن متم معها

بكوا عليكم، و إن غبتم حنوا إليكم» «2».

و في موثق سماعة عن الإمام الصادق عليه السّلام: «ثلاث من أتي اللّه بواحدة منهن أوجب اللّه له الجنة: الإنفاق من الإقتار، و البشر بجميع العالم، و الإنصاف من نفسه» «3» … إلي غير ذلك.

3- أنتم في بلاد تعود أهلها احترام القانون و التقيد بالنظام و تقديسهما، و استهجان الخروج عليهما و الاستهوان بهما. و هم ينظرون إليكم كضيوف عندهم و نزلاء في بلادهم، و يرون أنهم قد أحسنوا إليكم حين استقبلوكم و ضيفوكم، و واسوكم في محنتكم. و كلما ظهر لهم منكم احترام القانون و مراعاة النظام، و عدم انتهاكهما و إباء الخروج عنهما، ارتفعتم في أعينهم، و فرضتم شخصيتكم و احترامكم عليهم، و سوف تفرضون عليهم تبعا لذلك احترام دينكم العظيم و مباديكم الشريفة و رموزكم المقدسة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 512.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 404.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 512.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 92

أما إذا عرفوا منكم انتهاك القانون و الاستخفاف بالنظام و اهتبال الفرصة للخروج عليهما من أجل بعض المكاسب المادية المعجلة، و تحين الفرص للكسب غير المشروع حسب مقاييسهم، فإن ذلك سيحطّ من قدركم في أعينهم، و يشوه صورتكم لديهم، و يسي ء سمعتكم في أوساطهم.

ثم قد يستغل ذلك الإعلام المعادي و من ورائه القوي الهائلة المتحزبة عليكم، فتضخم الأمور، و تبالغ فيها، و تزيد من بشاعتها. و يعكس ذلك صورة سيئة منفرة عنكم و عن دينكم و مباديكم و رموزكم.

علي أن ذلك قد يعقّد الأمور ضدّكم، و يكون سببا لفرض قيود احترازية عليكم تزيد في متاعبكم و مشاكلكم، و يصعب التغلب عليها و الخروج منها.

و بعد أن

استعرضنا هذه الأمور الثلاثة فلنعرج علي تعاليم أئمتنا (صلوات اللّه عليهم) للمؤمنين من شيعتهم و أوليائهم في معاشرة الناس عموما، لنستضي ء بها في تأكيد ما سبق و جلاء الرؤية له.

ففي صحيح عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه سمعه يقول: «أوصيكم بتقوي اللّه، و لا تحملوا الناس علي أكتافكم فتذلوا، إن اللّه عز و جل يقول في كتابه: وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 93

حُسْناً. ثم قال: عودوا مرضاهم، و احضروا جنائزهم، و اشهدوا لهم و عليهم، و صلوا في مساجدهم … » «1».

و في حديث مرازم أنه قال: «عليكم بالصلاة في المساجد، و حسن الجوار للناس، و إقامة الشهادة، و حضور الجنائز. إنه لا بد لكم من الناس، إن أحدا لا يستغني عن الناس حياته، و الناس لا بد لبعضهم من بعض» «2».

و في صحيح معاوية بن وهب: «قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا و بين قومنا، و بين خلطائنا من الناس ممن ليسوا علي أمرنا؟ فقال: تنظرون إلي أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون. فو اللّه إنهم ليعودون مرضاهم، و يشهدون جنائزهم، و يقيمون الشهادة لهم و عليهم، و يؤدون الأمانة إليهم» «3».

و في حديث كثير بن علقمة: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أوصني. فقال: أوصيك بتقوي اللّه، و الورع، و العبادة، و طول السجود، و أداء الأمانة، و صدق الحديث، و حسن الجوار. فبهذا جاءنا محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم. صلّوا في عشائركم، و عودوا مرضاكم، و اشهدوا جنائزكم، و كونوا لنا زينا، و لا تكونوا علينا شينا،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 399- 400.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 ص:

399.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 399.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 94

حببونا إلي الناس، و لا تبغضونا إليهم، فجروا إلينا كل مودة، و ادفعوا عنا كل شر … » «1».

و في صحيح زيد الشحام: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:

اقرأ علي من تري أنه يطيعني منهم و يأخذ بقولي السلام.

و أوصيكم بتقوي اللّه عز و جل، و الورع في دينكم، و الاجتهاد للّه، و صدق الحديث، و أداء الأمانة، و طول السجود، و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم. و أدوا الأمانة إلي من ائتمنكم عليها برا أو فاجرا. فإن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان يأمر بأداء الخيط و المخيط.

صلوا عشائركم، و اشهدوا جنائزهم، و عودوا مرضاهم، و أدوا حقوقهم. فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه و صدق الحديث و أدي الأمانة و حسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، و يدخل عليّ منه السرور، و قيل: هذا أدب جعفر. و إذا كان علي غير ذلك دخل عليّ بلاؤه و عاره، و قيل: هذا أدب جعفر.

و اللّه لحدثني أبي عليه السّلام أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي عليه السّلام فيكون زينها أداهم للأمانة، و أقضاهم للحقوق، و أصدقهم للحديث، إليه وصاياهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 400.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 95

و ودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان؟! إنه أدانا للأمانة و أصدقنا للحديث» «1» … إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تقوم بها الحجة علي المؤمنين، و لا تبقي عذرا لهم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 398- 399.

مرشد المغترب، توجيهات و

فتاوي، ص: 96

صبر أتاه اللّه برزقه من حلّه، و من هتك حجاب الستر و عجل، فأخذه من غير حله قصّ به من رزقه الحلال، و حوسب عليه يوم القيامة» «2».

و النصوص في ذلك كثيرة لا تبقي عذرا لمعتذر.

2- و أما المكاسب الدنيئة و المبتذلة فعليكم أن تترفعوا عنها ما وجدتم لذلك سبيلا، فإن اللّه جل و علا قد أعزكم بدينه، و رفع شأنكم بحمل دعوته. قال عز من قائل وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ «3» فلا تذلوا أنفسكم و تضعوا من قدرها، فتظلموها و تهضموها حقها، فإن الكرامة فوق كل شي ء بعد رضي اللّه تعالي. و في موثق سماعة عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه

______________________________

(1) سورة الطلاق الآية: 2- 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 27.

(3) سورة المنافقون الآية: 8.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 98

قال: «إن اللّه عز و جل فوض إلي المؤمن أموره كلها، و لم يفوّض إليه أن يذل نفسه. أ ما تسمع لقول اللّه عز و جل: وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ. فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا، و لا يكون ذليلا، يعزه اللّه بالإيمان و الإسلام» «1».

و قد كان سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات اللّه عليه) ينشد عند مباشرة القتال قوله:

الموت أولي من ركوب العار و العار أولي من دخول النار

و اللّه من هذا و هذا جار «2»

و نحوه غيره من النصوص المؤكدة علي ذلك.

و لا سيما و أنكم في بلاد الكفر، حيث ينعكس وهنكم فيها و ذلكم في مجتمعاتها و بين شعوبها علي دينكم القويم و نبيكم العظيم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أئمتكم الأكرمين عليهم السّلام و مقدساتكم الرفيعة. بل إذا كثر ذلك منكم

و تكرر بوجه معتد به فقد يلفت نظر بعض القوي الخفية المعادية لكم و لدينكم، فتركز علي ذلك، و تسعي جاهدة و بطرق مختلفة للتضييق عليكم و سدّ فرص العمل المحترمة في وجوهكم، و تشجيعكم علي تلك المكاسب الدنيئة، حتي تألفوها و توطنوا أنفسكم عليها إلي أن تعرفوا بذلك و يشيع عنكم،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 424.

(2) بحار الأنوار ج: 44 ص: 196.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 99

و يكون سمة عار عليكم و علي دينكم و مقدساتكم. كما عرف في بلادنا اختصاص بعض الفئات ببعض الأعمال الدنيئة، فكان ذلك سبب وهن لهم.

و ذلك مما تأباه غيرة الإسلام و حمية الإيمان و الخلق الرفيع.

بل قد يصل الأمر فيه حدّ الحرمة و المعصية للّه تعالي.

قال سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات اللّه عليه):

«و هيهات منا الذلة يأبي اللّه ذلك لنا و رسوله و المؤمنون و حجور طابت و حجز «1» طهرت و أنوف حمية و نفوس أبيّة» «2».

فالحذر الحذر، من ذلك كله و ترفعوا عنه، و تدبروا أمركم، و اكبحوا جماع الجزع و الهلع، و تدرّعوا بالقناعة و الصبر، و ألجئوا إلي اللّه سبحانه الذي أعز المؤمنين و كرّمهم في أن يفتح لكم أبواب الرزق الهني ء، و العيش الكريم، و تضرعوا إليه في ذلك، و توكلوا عليه، و أحسنوا الظن به. و لن يخذلكم إذا عرف ذلك منكم إن شاء اللّه تعالي.

______________________________

(1) جمع حجزة، حيث يثني طرف الأزرار، كناية عن العفة.

(2) شرح نهج البلاغة ج: 3 ص: 250، و اللفظ له. بحار الأنوار ج: 45 ص: 83.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 100

ألفتموها، و لم يتحصن بشي ء من ذلك، بل هو غريب عنه في نفسه و مجتمعه، بعيد عنه جملة و تفصيلا. و من ثم يتعرض في تلك البلاد و المجتمعات لأعظم خطر ثقافي و سلوكي، خصوصا بعد صرامة قوانينهم في إلزامية التعليم و ابتنائه علي التحرر بنحو يبلغ حدّ التحلل و التبذل و التفسخ، و إضعاف سيطرة الأبوين و الأسرة علي الطفل و عدم مراقبتهم له. كل ذلك يجعله مهيأ للانصهار بذلك المجتمع في ثقافته و سلوكه، و ذوبانه فيه بيسر من دون مقاومة و لا ممانعة. و قد بلغنا أن بعض الصحف قد توقعت ذلك متبجحة شامتة.

و هو أمر يحزّ في نفوسنا و نفس كل مسلم و مؤمن غيور، لأن هذا الجيل الناشئ هو جيل الإسلام و الإيمان الثاني في تلك البلاد، بل هو جيل الإسلام و الإيمان المقبل فيها إن بقيت الأوضاع علي هذا الحال، فيا لها من خسارة و فجيعة إن تمّ ذلك.

و من هنا فالأمل بالمسلمين و المؤمنين عامة- في تلك البلاد و في بلاد الإسلام- دراسة المشكلة و الإحاطة بحجمها و أهميتها،

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 101

و استثارة الحمية الدينية و العاطفية، و تحمل المسئولية، ثم التعاون و التعاضد لمكافحة هذا الخطر الفادح و التحصن منه. و ذلك بالسعي لإنشاء مدارس لهذا الجيل في تلك البلاد، تتكفل مناهجها بتدريس أصول الدين و فروعه- في أحكامه و أخلاقياته و سلوكياته- مع تحبيب ذلك إليه، و بيان فوائده و ثمراته، و مخاطر التحلل منه و سلبياته.

كل ذلك من أجل أن تثقف هذا الجيل بثقافته الأصيلة الدينية و الأخلاقية، و توجهه نحو السلوك الأمثل، و تحصنه من الانحراف- الثقافي و السلوكي- المتوقع، و

تحفظ له إنسانيته و دينه و مثله و أخلاقه، و تقوّي روابطه بأصوله، و تشدّه إليها، و تستثير مشاعره و عواطفه نحوها، و تنفره مما يحيط به من دواعي التحلل و التفسخ و الانحراف.

و ذلك و إن احتاج في أول أمره إلي تضحيات مادية لا يستهان بها، إلا أن المشكلة بأهميتها و حجمها تستدعي مثل هذه التضحيات. علي أنها قد تخفّ بالتعاون و التعاضد، ثم قد تدر من المال ما يعين علي استمرارها، أو يكفي فيه، بل ما قد يتدارك خسائرها و يزيد عليها، علي الأمد القريب أو البعيد. و لا سيما مع الاستجابة لداعي اللّه تعالي و الاستعانة به، و التوكل عليه و حسن الظن، فإنه في عون عبده ما كان عبده معه وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «1».

______________________________

(1) سورة العنكبوت الآية: 69.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 102

هذا كله بالإضافة إلي المسلمين و المؤمنين عامة. أما بالإضافة إليكم- أيها المغتربون- بأشخاصكم فهذا الجيل الناشئ هو أفلاذ أكبادهم، و ثمرات أفئدتكم، و امتداد وجودكم، و آمالكم المشرقة، و أمانة اللّه تعالي في أيديكم، و وديعته عندكم، التي عنها تسألون، و عليها تحاسبون.

قال عز من قائل: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا النّٰاسُ وَ الْحِجٰارَةُ عَلَيْهٰا مَلٰائِكَةٌ غِلٰاظٌ شِدٰادٌ لٰا يَعْصُونَ اللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ «1».

و بعد ذلك ألا ترون أن أحدكم يشفق علي ولده من البرد يمسه، و المرض يعتريه، و العثرة تصيبه، و الشوكة تؤذيه، ثم يتركه حطبا لنار جهنم، مترديا في حضيض التحلل و الانهيار الخلقي، عارا عليه و علي دينه و كرامته.

فاتقوا اللّه تعالي و توكلوا عليه، و

استعينوا به و ألجئوا إليه، ثم اجهدوا جهدكم، و أعدو عدّتكم، و شمروا عن ساعد الجدّ و الإصرار، و تشبثوا بأولادكم و راقبوهم، و أحسنوا تربيتهم و تعاهدوهم، و غذوهم بأصول الإسلام و الإيمان، و تعاليم الدين الحنيف، و الخلق الإسلامي الرفيع، و هدي أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، و نبهوهم إلي محاسن ذلك كله و فوائده و ثمراته،

______________________________

(1) سورة التحريم الآية: 6.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 103

و سلبيات ما يحيط بهم من أفكار و سلوك و مخاطره و مضاعفاته، و أشعروهم تفاهته و سقوطه.

و هيئوا لهم الجوّ المناسب لذلك في البيت و في مجالسكم و مجامعكم و معاهدكم، و لا تهملوا ذلك في أحاديثكم الخاصة و العامة، و مناسباتكم الطارئة و الثابتة، حتي ينشدّوا لتلك الجذور الطيبة و الأصول المثمرة، و يتعلقوا بها بعواطفهم و قلوبهم، و يعيشوها و يتفاعلوا معها في وجدانهم و سلوكهم. و لا يخدعوا بما يحيط بهم- من أفكار و مفاهيم و سلوك- و لا تستهويهم لذته المباشرة، بل يتنكروا له و يشمئزوا منه و يباينوه.

و مهما جهدتم في ذلك و تحملتم في سبيله من متاعب و مصاعب و تضحيات و خسائر فهو دون حقه، و أنتم رابحون فائزون. فإنكم كالغريق عليه أن يتشبث بما يستطيع من أسباب الحياة و السلامة وَ اللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ «1» و نسأل اللّه تعالي بمنه و كرمه و بحق صفوته من خلقه محمد و آله الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) أن يعينكم علي ذلك بأفضل العون، و يسددكم، و يقرن جهودكم بالنجاح و الفلاح. إنه أرحم الراحمين، و ولي المؤمنين، و خير الناصرين.

و اعلموا أن من أقوي الروابط التي تربطهم

بأصولهم و تشدهم إليها، و تحفظ لهم شخصيتهم و كيانهم، لغتهم الشريفة،

______________________________

(1) سورة محمد الآية: 35.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 104

اللغة العربية، لغة القرآن المجيد، و الأحاديث الكريمة، و الدين الحنيف، و التعاليم الصادقة، و الآداب الرفيعة- في المواعظ و الأدعية و الخطب و الزيارات- و التاريخ المشرق، و الأمجاد العريقة، و جميع التراث الإسلامي الأصيل. فإنهم إذا عرفوها سهل عليهم استيعاب ذلك كله و التفاعل معه.

فالحذر الحذر من أن ينفلتوا منها و يجهلوها أو يهملوها، فينقطعوا عن ذلك كله انقطاعا يصعب معه الرجوع إليه و الانتفاع به. فلتكن لغتكم فيما بينكم، و في مجتمعاتكم و نواديكم و مناسباتكم، حتي يعيشونها معكم و يتلقونها منكم. و هيئوا لهم ما تقدرون عليه من كتب و نشرات و تسجيلات و غيرها مما يغذيهم بها، و يشدهم إليها. و لا تغفلوا ذلك أو تفرطوا فيه، لأهميته العظمي في حياة هذا الجيل الناشئ و مصيره.

و حقيق بالمسلمين- علي اختلاف شعوبهم و قومياتهم- أن يهتموا بهذه اللغة، و يتعلموها بأنفسهم و يعلموها أطفالهم، فهي لغة دينهم العظيم التي تحمل تراثه من علم و تعاليم و ثقافة و آداب. و هي اللغة التي جمعت المسلمين في أوج مجدهم- علي اختلاف شعوبهم و قومياتهم و بلادهم- فملئوا بها الدنيا علما و ثقافة في كتاباتهم و تآليفهم و خطبهم و أشعارهم.

و نحن نري كثيرا من المسلمين اليوم يتعلمون اللغات الأجنبية من أجل أن يستعينوا بها علي اكتساب مال أو علم، و لا

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 105

يفكرون- مع كل الأسف- في تعلم هذه اللغة التي هي لغة دينهم من أجل الوصول لثقافتهم الأصيلة و استيعاب تراثهم العظيم، الذي به نجاتهم و

سعادتهم و تكامل شخصيتهم و كيانهم، و لتكون لهم اللغة الواحدة التي تجمعهم من أجل مدّ الجسور بينهم، و تيسير سبل التواصل و التعارف بين بعضهم و البعض الآخر، علي اختلاف شعوبهم و قومياتهم و بلدانهم.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 106

من أرباح- قد تدني سعرها للنصف أو ما دون النصف، لا لشي ء إلا لتبديل موديلها، و سارع كثير من الناس لتبديل ما عندهم منها بالموديل الجديد، ثم تركوا الموديل السابق مهملا، أو باعوه بأبخس الثمن بسبب استعماله- و إن قلّ- و انتهاء أمد موديله. و هكذا دواليك.

و مثل ذلك المودة المستجدة في الملابس و الديكورات و غيرها مما لا يحصي. و قد استحكم الاهتمام بالموديل و المودة و نحوهما و ملك مشاعر الناس. يدفعهم إلي ذلك الإعلام المكثف و أساليب الدعاية المختلفة التي يقف وراءها المنتفعون لامتصاص الأموال و استحصالها من الناس من حيث لا يشعرون. و الناس في غفلة عن ذلك قد خدعوا و فقدوا رشدهم و غلبوا علي أمرهم.

فعلي المؤمنين وفقهم اللّه تعالي- خصوصا المغتربين الذين يعيشون وسط تلك المجتمعات المنغمسة في الترف و المولعة بهذه الأمور- أن ينتبهوا لحقيقة الحال، و لا يندفعوا في نفقاتهم من دون تعقل و تبصر، فتذهب أموالهم التي رزقها اللّه تعالي إياها بجدهم

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 108

و بجهدهم و تعبهم من دون فائدة معتد بها، بل لأوهام و توافه فرضها وضع تلك المجتمعات الفاسدة المغلوبة علي أمرها.

و ليتأدبوا بأدب دينهم، و يسترشدوا به في أمرهم، فإن ذلك كله لا يتناسب مع تعاليم الإسلام العظيم و نظرته الاقتصادية في مجالات الحياة المختلفة، لوضوح أن التمتع بالطيبات و الانتفاع بالمتاع النافع و إن كان أمرا حسنا غير ممقوت شرعا إلا أن الإنفاق بهذا النحو من أظهر أنحاء التبذير و السرف المنهي عنه شرعا في الكتاب المجيد و علي لسان النبي الكريم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته الطاهرين عليهم السّلام.

و يحسن بنا أن

نثبت بعض الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة التي توضح الخطوط العامة لنظرة الإسلام الاقتصادية.

قال اللّه تعالي: وَ آتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لٰا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ الشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ الشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَ إِمّٰا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغٰاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهٰا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً. وَ لٰا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِليٰ عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «1».

و قال سبحانه: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «2».

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية: 26- 29.

(2) سورة الأنعام الآية: 141.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 109

و قال عز من قائل: يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ … «1».

و قال عز و جل: وَ الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً «2».

و قال تعالي شأنه: يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «3».

و في حديث أبي حمزة عن الإمام زين العابدين عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: ثلاث منجيات. فذكر الثالث:

القصد في الغني و الفقر» «4».

و عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: من اقتصد في معيشته رزقه اللّه، و من بذر حرمه اللّه» «5».

و في حديث داود الرقي عنه عليه السّلام: «قال: إن القصد أمر يحبه اللّه عز و جل، و إن السرف أمر يبغضه اللّه عز و جل، حتي طرحك النواة، فإنها

تصلح لشي ء، و حتي

______________________________

(1) سورة الأعراف الآية: 31- 32.

(2) سورة الفرقان الآية: 67.

(3) سورة البقرة الآية: 219.

(4) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 258.

(5) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 259.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 110

صبك فضل شرابك» «1». و قد قال ذلك عليه السّلام في وقت يمكن فيه الانتفاع بالنوي للوقود، أو لعلف الأنعام الداجنة في البيوت.

و في حديث إسحاق بن عمار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يكون للمؤمن عشرة أقمصة؟ قال: نعم.

قلت: عشرون؟ قال: نعم. قلت: ثلاثون؟ قال: نعم. ليس هذا من السرف، إنما السرف أن تجعل ثوب صونك ثوب بذلك» «2».

و مراده عليه السّلام بذلك أن السرف هو لبس الثياب الفاخرة التي يتجمل بها الناس و يصون بها نفسه أمامهم في داخل داره عند التبذل و عدم الحاجة للتجمل.

و في حديثه الآخر: «قال: أدني الاسراف هراقة فضل الإناء و ابتذال ثوب الصون و إلقاء النوي» «3».

و عنه عليه السّلام: «دخل عليه بعض أصحابه فرأي عليه قميصا فيه قب قد رقعه، فجعل ينظر إليه، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ما لك تنظر؟ فقال: قب يلقي في قميصك؟! قال: فقال لي: اضرب يديك إلي هذا الكتاب، فاقرأ ما فيه، و كان بين يديه كتاب أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 257.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 ص: 352.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 ص: 376.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 111

قريب منه، فنظر الرجل فيه فإذا فيه: لا إيمان لمن لا حياء له، و لا مال لمن لا تقدير له، و لا جديد لمن لا خلق له» «1».

و في حديث عمار: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أربعة لا يستجاب لهم أحدهم كان له مال

فأفسده فيقول: يا رب ارزقني فيقول اللّه عز و جل: أ لم آمرك بالاقتصاد؟!» «2».

بل حتي الإنفاق في سبل الخير و المعروف قد جعل اللّه تعالي له حدودا، من تجاوزها فقد أسرف و بذر و خرج عن تعاليم الإسلام فإن العقل فوق كل شي ء، و الحكمة و حسن التصرف من أهم الأمور التي حث عليها الإسلام الذي هو دين الكمال في جميع مجالات الحياة. ففي حديث ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن الإمام الصادق عليه السّلام: «في قول اللّه عز و جل:

يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال العفو الوسط» «3».

و في حديث هشام بن المثني: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عز و جل: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فقال: كان فلان بن فلان الأنصاري- سماه- و كان له حرث. و كان إذا أخذ (يعني: ثمر حرثه) يتصدق به و يبقي هو و عياله بغير شي ء فجعل اللّه تعالي ذلك سرفا» «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 3 ص: 376.

(2) الكافي ج: 4 ص: 56، و اللفظ له. وسائل الشيعة ج: 15 ص: 261.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 258.

(4) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 263.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 112

و في حديث عجلان قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فجاء سائل، فقام إلي مكتل فيه تمر فملأ يده فناوله، ثم جاء آخر فسأله، فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فسأله، فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فقال:

اللّه رزقنا و إياك. ثم قال: إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان لا يسأله أحد من الدنيا

شيئا إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابنا لها.

فقالت: انطلق إليه فاسأله، فإن قال: ليس عندنا شي ء فقل:

اعطني قميصك. قال: فأخذ قميصه فرمي به إليه [و في نسخة أخري: فاعطاه] فأدبه اللّه تعالي علي القصد، فقال:

وَ لٰا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِليٰ عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» «1».

و في حديث مسعدة بن زياد عن الإمام الصادق عليه السّلام:

«قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: أصناف لا يستجاب لهم. منهم من أدان رجلا دينا إلي أجل، فلم يكتب عليه كتابا، و لم يشهد عليه شهودا. و رجل يدعو علي ذي رحم … و رجل رزقه اللّه تبارك و تعالي مالا، ثم أنفقه في البر و التقوي، فلم يبق له منه شي ء، و هو في ذلك يدعو اللّه أن يرزقه. فهذا يقول له الرب تبارك و تعالي:

أ لم أرزقك و أغنيتك، أ فلا اقتصدت و لم تسرف؟! إني لا أحب المسرفين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 264.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 113

و رجل قاعد في بيته، و هو يدعو اللّه أن يرزقه لا يخرج و لا يطلب من فضل اللّه كما أمره اللّه. هذا يقول اللّه له: عبدي إني لم أحضر عليك الدنيا و لم أرمك في جوارحك و أرضي واسعة، فلا تخرج و تطلب الرزق؟ فإن حرمتك عذرتك، و إن رزقتك فهو الذي تريد» «1»، و الأحاديث في ذلك كثيرة لا مجال لاستقصائها.

كما ينبغي للعاقل الرشيد الموازنة بين الدخل و المصروف، فمن وسع اللّه تعالي عليه وسع- من غير سرف و لا ترف- و من قتر عليه قتر مع تجمل بالمقدار الممكن، و لا يحسن بالفقير أن ينفق فوق

طاقته من أجل المباهاة أو مجاراة الغني فيجهد نفسه، حتي قد ينتهي الأمر به إلي ما لا تحمد عقباه قال اللّه تعالي: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا سَيَجْعَلُ اللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً «2».

و في حديث عمر بن يزيد عن الإمام الصادق عليه السّلام «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: إن المؤمن يأخذ بآداب اللّه، إذا وسع عليه اتسع، و إذا أمسك عنه أمسك» «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 90 ص: 355، و اللفظ له. وسائل الشيعة ج: 4 ص: 1161.

(2) سورة الطلاق الآية: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 249.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 114

و في حديث رفاعة عنه عليه السّلام: «قال: إذا جاد اللّه تبارك و تعالي عليكم فجودوا، إذا أمسك عنكم فامسكوا، و لا تجاودوا اللّه فهو أجود» «1».

و في حديث أبي بصير عنه عليه السّلام: «قال: رب فقير هو أسرف من الغني، إن الغني ينفق مما أوتي، و الفقير ينفق من غير ما أوتي» «2»، إلي غير ذلك من الإرشادات و الآداب التي تضمنتها أحاديث النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام في الجانب الاقتصادي و لا يسعنا فعلا استقصاؤها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 259.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 263.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 115

أحد و تبنيه لوجهة نظره الخاصة مبنيا- بعد اللجأ إلي اللّه تعالي و طلب التسديد و التوفيق منه- علي التثبت و التروي، و ملاحظة رضي اللّه تعالي و صلاح الدين و المؤمنين، و أداء الواجب في ذلك، بعيدا عن الدوافع الخارجية و المصالح الفردية، و المنافع المادية و الوهمية، كحب الظهور و الرئاسة، أو المشاقة لبقية الأطراف، أو غير ذلك من دواعي الهوي، فإن اللّه تعالي فوق كل شي ء، و إليه يرجع الأمر كله، و هو العالم بالضمائر، و المطلع علي السرائر. و قد حذر أئمتنا (صلوات اللّه عليهم) من ذلك أشدّ التحذير.

ففي صحيح معمر بن خلاد عن أبي الحسن عليه السّلام: «أنه ذكر رجلا فقال: إنه يحب الرئاسة. فقال: ما ذئبان ضاريان في غنم قد

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 116

تفرق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة» «1». و في حديث أبي مياح عن أبيه عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «من أراد الرئاسة هلك» «2».

و في حديث أبي الربيع الشامي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: «ويحك يا أبا الربيع لا تطلبن الرئاسة، و لا تكن ذئبا [ذنبا]، و لا تأكل بنا الناس فيفقرك اللّه … » «3».

و في حديث القاسم بن عون عن الإمام السجاد زين العابدين عليه السّلام أنه قال في جملة كلام له: «إياك أن تترأس فيضعك اللّه، و إياك أن تستأكل فيزيدك اللّه فقرا، و أعلم أنك إن تكن ذنبا في الخير خير لك من أن تكون رأسا في الشر … » «4» … إلي غير ذلك.

2- علي استبعاد العنف في فرض وجهة النظر علي بقية الأطراف، و علي احترام وجهة نظر الآخرين و شعورهم، و

التعامل معها برفق و تعقل وسعة صدر. و في صحيح زرارة عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: إن الرفق لم يوضع علي شي ء إلا زانه، و لا نزع من شي ء إلا شانه» «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 279.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 280.

(3) الكافي ج: 2 ص: 298، و اللفظ له. وسائل الشيعة ج: 11 ص: 280.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 281.

(5) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 214.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 117

و في صحيح معاذ بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: الرفق يمن و الخرق شؤم» «1».

و في موثق السكوني عنه عليه السّلام أنه قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:

سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك، و مواساة الأخ في اللّه، و ذكر اللّه علي كل حال» «2».

فكما لا يرضي الإنسان أن تفرض عليه وجهة نظر غيره بإصرار و عنف، كذلك ينبغي له أن لا يفرض وجهة نظره علي غيره بإصرار و عنف.

3- أن لا يؤدي اختلاف و جهات النظر إلي التقاطع و التدابر، بل تبقي للجميع إخوتهم الإيمانية، و وحدتهم تحت ظل أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، مع محاولة تخفيف حدّة الخلاف، و تقريب و جهات النظر، و الاهتمام بالجهات المشتركة التي يتفق الكل عليها، و خدمتها، و احتفاظ كل طرف بوجهة نظره لنفسه، أو دعوته لها بالتي هي أحسن. ففي ذلك جمع شملكم، و صلاح شأنكم، و رضي ربكم جلّ شأنه، و سرور نبيكم صلّي اللّه عليه و آله و

سلّم و أهل بيته الطاهرين عليهم السّلام وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَمِيعاً وَ لٰا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 213.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 225.

(3) سورة آل عمران الآية: 103.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 118

و التناحر و العصبيات، و محاصرته من الخارج، و صب النقمة عليه و علي المسلمين عموما، و تجاهل حقوقهم، و ملاحقتهم و انتهاك حرماتهم.

إذ ينبغي أن يكون ذلك محفزا للمسلمين عموما- علي اختلاف مذاهبهم و طوائفهم- علي التكاتف و التآزر لخدمة دينهم القويم و مثلهم الرفيعة، و الدعوة إليها بالحكمة و الموعظة الحسنة، و الوقوف بوجه الحملات الظالمة التي يراد منها إضعافهم و تمزيقهم.

و عليكم مع ذلك أن تحسنوا معاشرة بقية الفئات من المسلمين و تحفظوا لهم حق الإسلام و حرمته. و إذا كنا قد أكدنا فيما سبق علي حسن المعاشرة و واجباتها في المجتمعات المحيطة بكم و هي كافرة متحللة، فكيف بالمسلمين الذين يتحرمون بحرمة الإسلام العظيم و يشتركون معكم فيه. و أنتم معهم هناك أقلية ضعيفة، كلما زادت ألفة و تلاحما زادت قوة و ثباتا.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 120

عليه): «إلهي إن اختلاف تدبيرك و سرعة طواء مقاديرك منعا عبادك

______________________________

(1) سورة الطلاق الآية: 2- 3.

(2) سورة الحجر الآية: 56.

(3) بحار الأنوار ج: 91 ص: 287.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 121

العارفين بك عن السكون إلي عطاء و اليأس منك في بلاء» «1».

و عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «أوحي اللّه عز و جل إلي داود عليه السّلام: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات و الأرض و من فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن … » «2».

و في صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الإمام الرضا عليه السّلام: «قال: أحسن الظن باللّه، فإن اللّه عز و جل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خيرا فخير، و إن شرا فشر» «3» … إلي غير ذلك، و إن التجارب و العبر في ذلك لا تعدّ و لا تحصي.

فأكدوا هذا الأمر في نفوسكم و قووه بالتذكر و الاعتبار.

و لا تغفلوا عنه، فتضعف نفوسكم إزاء المشاكل و الأزمات، بل قد تنهار باليأس و القنوط.

عصمكم اللّه تعالي برحمته من ذلك و أعانكم في أمركم إنه أرحم الراحمين و غوث اللاجئين.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج: 95 ص: 225.

(2) بحار الأنوار ج: 14 ص: 41.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 180.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 122

لعباده، و لم يغلقها في وجوههم مهما بلغت حالهم، و ساءت أعمالهم، و اسودت صحائفهم.

فمن تاب منهم و أناب إليه و استغفره قبل توبته، و غفر له ما سلف من ذنوبه، من دون أن يحدّ ذلك بحدّ، أو يوقته بوقت، أو يشرطه بشرط.

قال عز من قائل: قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَ أَنِيبُوا إِليٰ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذٰابُ ثُمَّ لٰا تُنْصَرُونَ «1».

و قال جل شأنه: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئٰاتِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ «2».

______________________________

(1) سورة الزمر الآية: 53- 54.

(2) سورة الشوري الآية: 25.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 123

و قال تعالي: فَمَنْ تٰابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّٰهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

و قال سبحانه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً «2».

و في حديث جابر عن الإمام الباقر عليه السّلام: «سمعته يقول:

التائب من الذنب كمن لا ذنب له … » «3».

و في موثق السكوني عن الإمام الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام:

«قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: لكل داء دواء، و دواء الذنوب الاستغفار» «4» … إلي غير ذلك من الأحاديث الشريفة. فاستغلوا هذه الفرصة و ارجعوا إلي ربكم، و توبوا إليه، و ادخلوا باب رحمته و لا تيأسوا من روحه.

و إذا حصلت التوبة من العبد، ثم غلبته نفسه و سول له الشيطان، فعاد للذنب. لم ينسد باب التوبة في وجهه بعد أن فتحه اللّه تعالي له. بل لا يزال الباب مفتوحا أمامه مهما تكرر ذلك منه. فإن

اللّه تعالي غفور رحيم يحبّ من عباده من إذا فتنه الشيطان و خدعه فأذنب و عصي بقيت

______________________________

(1) سورة المائدة الآية: 39.

(2) سورة نوح الآية: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 358- 359.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 354.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 124

علاقته بربه و عاد إليه، فصلح و تاب من ذنبه، و لم ييأس من رحمته.

و في صحيح أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال: هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت: و أينا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمد إن اللّه يحب من عباده المفتن التواب» «1».

و في حديث أبي جميلة عنه عليه السّلام قال: «إن اللّه يحب العبد المفتن التواب. و من لا يكون ذلك منه كان أفضل» «2».

و في صحيح محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السّلام: «قال:

يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له. فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة. أما و اللّه إنها ليست إلا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار من الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال: يا محمد بن مسلم أ تري العبد المؤمن يندم علي ذنبه و يستغفر منه و يتوب، ثم لا يقبل اللّه توبته؟! قلت: فإنه فعل ذلك مرارا، يذنب ثم يتوب و يستغفر. فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد اللّه عليه بالمغفرة. و إن اللّه غفور

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 357.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 364.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 125

رحيم، يقبل التوبة و يعفو عن السيئات. فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة اللّه» «1».

فعلي المؤمنين

عموما أن يعرفوا نعمة اللّه تعالي عليهم و رحمته لهم حين فتح لهم باب التوبة و دعاهم إليها، فليستجيبوا لربهم، و ينيبوا إليه و لا يستحوذ عليهم الشيطان فينسيهم ذكر اللّه تعالي، أو يقنطهم من رحمته، ليقضي منهم وطره و يتم كيده، فيوغلوا في الفساد و العصيان إلي غير رجعة.

و نسأل اللّه سبحانه و تعالي أن يعيذنا منه و من كيده و أن ينبهنا من غفلتنا، و يوفقنا لتلافي ما فرط منا، إنه هو الغفور الرحيم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 363.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 126

لها في غربتكم، و حفظا لكم عن الضياع في تلك المجتمعات الفاسدة و الانصهار فيها لا سمح اللّه تعالي.

______________________________

(1) سورة التوبة الآية: 122.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 128

ثمّ حشرت معهم.

قال: فقال لي: يا حماد إذا كنت ثمّ تذكر أمرنا و تدعوا إليه؟

قلت: نعم. قال: فإذا كنت في هذه المدن مدن الإسلام تذكر أمرنا و تدعو إليه؟ قال: قلت: لا. فقال لي: إنك إن مت ثمّ حشرت أمة وحدك، يسعي نورك بين يديك» «2».

و إن لكم في مناسباتكم الدينية و شعائركم المذهبية خير معين علي ذلك، كما أشرنا إليه عند التعرض لها في الأمر الثامن وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 30.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 ص: 448.

(3) سورة العنكبوت الآية: 69.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 130

آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ «1».

و قال سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «2».

و قال عز و جل: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَي اللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «3».

فعلي كل فرد أن يؤدي وظيفته بقدر طاقته و يخرج عن مسئوليته، و لا يمنعه من ذلك عدم تعاون الغير معه، و إن كان التعاون بين المؤمنين و التنسيق بينهم أفضل و أعظم فائدة.

و إن هذا الشعور بالمسئولية علي الانفراد أحري بالبقاء و الاستمرار، لأنه يدعو للعمل و التحرك دائما، و في جميع الأحوال، و لا يبقي معه عذر لترك العمل و انقطاعه. و إذا بقي العمل في اتجاه الخير و من أجل الحق- و لو من القليل- و لم ينقطع كان سببا لتنبيه الآخرين و قيام الحجة عليهم باستمرار.

و من الطبيعي أن يؤثر ذلك و لو في القليل، فيندفعوا نحو العمل …

______________________________

(1) سورة الطور الآية: 21.

(2) سورة المدثر الآية: 38.

(3) سورة المائدة الآية: 105.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 132

و هكذا يستمر العمل، و تستمر الدعوة له، فإذا تهيأت الظروف المناسبة لنموه و سعته نمي و اتسع.

و من ثم اهتم أئمتنا (صلوات اللّه عليهم) بالعمل الفردي مهما قل، و خاطبوا كل فرد لوحده، من دون أن يشترطوا في تحميله المسئولية، و في قبول عمله، و ترتب الأجر عليه اشتراك غيره معه في العمل، و تنسيقه مع الآخرين.

و قد تغلغلت تعاليمهم الحقة في نفوس القلة القليلة من المؤمنين و استمكنت منها، من دون أن تكون هناك جماعة تنصرها، و لا قوة تدعمها، بل

تعرضت لأقسي وجوه المقاومة و المحاربة. لكنها لم تنقطع بل تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل، و تحملها القلة عن القلة، ثم زكت و نمت و شاعت عند ما تهيأت لها الظروف المناسبة.

هذا ما تيسر لنا تنبيهكم إليه في المقام. و لا زلنا معكم نتطلع إلي أخباركم، و نتعرف علي مشاكلكم و متاعبكم و نتحسسها.

و نعلم مع ذلك أن وضعكم حرج، و مشاكلكم معقدة، و الطريق طويل، و الشوط بعيد. غير أن اللّه تعالي يقول: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا وَ رٰابِطُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1».

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية: 200.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 133

و نسأل اللّه سبحانه و تعالي بمنه و لطفه أن يثبتكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة، و أن يزيدكم إيمانا و تسليما، و يعيذكم من الشيطان الرجيم و من مضلات الفتن. كما نسأله أن يكلؤكم بكلاءته و يرعاكم بعين رعايته و يعضدكم في جميع أموركم، و يحسن لكم التيسير، و لا يخذلكم في العسير، و يدفع عنكم السوء و البلاء، و يكفيكم شرّ الأعداء. و يفيض عليكم من فضله و رحمته ما يصلح به أمركم، و يشعب به صدعكم، و يلمّ به شعثكم، و يسعدكم في دنياكم و آخرتكم. إنه أرحم الراحمين و ولي المؤمنين و هو حسبنا و نعم الوكيل، نعم المولي و نعم النصير.

و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

و السلام عليكم جميعا- أينما كنتم من فجاج الأرض- و رحمة اللّه و بركاته.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 135

الزمن و ظلمات الفتن علي طول المدة و شدة المحنة.

كل ذلك بفضل علمائها المخلصين الذين لا تأخذهم في اللّه تعالي لومة لائم، و اتباعهم المؤمنين الذين لا يأخذون دينهم إلا ممن هو أهل للأمانة في دينه و ورعه و قدسيته، رافضين غيرهم ممن لا يتحلي بالأمانة و الورع، و لا يبالي في أي واد سلك، قد تورط في الشبهة و وضع نفسه في مواضع التهمة.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 139

و أمام أعينهم في ذلك تعاليم أئمة الهدي من أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) المطابقة لحكم العقل السليم و الكتاب المجيد و لسنة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.

فقد ورد عنهم عليهم السّلام في ذلك الشي ء الكثير، و في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السّلام انه- بعد أن ذم اليهود بتقليدهم لعلمائهم و شدد عليهم- قال:

«و كذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر و العصبية الشديدة و التكالب علي الدنيا و حرامها، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه تعالي بالتقليد لفسقة علمائهم.

فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا علي هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، و ذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم، فإن من ركب من القبائح و الفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا و لا كرامة … » «1».

فعلي المؤمنين سددهم اللّه تعالي- العلماء منهم و الأتباع- أن يعرفوا عظيم المسئولية الملقاة علي عواتقهم، و ثقل الأمانة التي حملها اللّه تعالي إياهم، و ليكن الهم الأول و الأخير للعالم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 18 ص: 94.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 140

هو معرفة الحقيقة و الحفاظ عليها

و الوصول للحكم الشرعي من منابعه الأصيلة، و بيانه، أداء للوظيفة الشرعية، من دون اهتمام بكثرة الأتباع و الأنصار، و لا بالبهرجة و حب الظهور، و لا بغير ذلك من مغريات الدنيا الزائلة، و دواعي الشيطان المهلكة.

و أمام عينيه قوله تعالي: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ.

لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمٰا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حٰاجِزِينَ «1».

كما ليكن همّ الأتباع الخروج عن تبعة الأحكام الشرعية بأخذها من العلماء العاملين، من أهل الورع و التقوي و النزاهة و الإخلاص و الاستقامة، و ممن لا تنالهم الطعون، و لا تلوكهم الألسن لبعدهم عن الشبهات و عن مواقع التهم، مع كمال التثبت و التروي، ليكونوا بذلك علي بصيرة من الخروج عن المسئولية و قيام العذر لهم بين يدي اللّه تعالي، يوم يعرضون عليه لا يخفي عليه منهم خافية.

و لا يكون اتّباعهم للشخص مبنيا علي التسرع و الانخداع ببهرجة الأقوال، أو لموافقته لأهوائهم و رغباتهم، فإن الرقيب في جميع ذلك هو اللّه تعالي المطلع علي السرائر و العالم بالخفايا و الضمائر، و لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء.

______________________________

(1) سورة الحاقة الآية: 44- 47.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 141

و قد يقف الناس حياري- لملابسات خاصة و ظروف طارئة- أمام كثرة الدعاوي و تعدد الاتجاهات، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يجرّ للتفريط في الوظيفة و التقصير في أداء الواجب.

إذ مهما التبست الأمور و شبهت الفتن فإن اللّه جلت آلاؤه لا يضيع حجته و لا يخفي معالم دينه- بفضله و رحمته إن شاء اللّه- علي من حاول البحث عنها و جهد في الوصول إليها وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ

اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «1»، قُلْ فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبٰالِغَةُ فَلَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ «2».

و نرجو بذلك أن نكون قد قمنا ببعض الواجب في النصح لإخواننا المؤمنين و تذكيرهم بواجبهم فَإِنَّ الذِّكْريٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «3» و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب، و هو حسبنا و نعم الوكيل، و الحمد للّه كما هو أهله، و الصلاة علي خير خلقه محمد و آله الطاهرين.

______________________________

(1) سورة العنكبوت الآية: 69.

(2) سورة الأنعام الآية: 149.

(3) سورة الذاريات الآية: 55.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 142

الأعلمية من الأمور الاجتهادية الحدسية، التي من شأنها أن تختلف فيها الأنظار، و تتباين فيها و جهات النظر. و يتعين التعامل معه بموضوعية و انفتاح، مع الاحترام المتبادل، بعد كون الأطراف معنية بالحقيقة، و هي في مقام أداء الأمانة و الخروج عن العهدة.

و لا يفترض في الإنسان أن يلزم الآخرين بقناعاته.

و قد يحسن أن نذكر مثالا عشناه، فقد كان المرحوم آية اللّه الشيخ محمد طاهر الشيخ راضي قدّس سرّه مقتنعا بالتخيير بين المرجعين العظيمين السيد الحكيم و الشيخ محمد رضا آل ياسين (قدس سرهما). و كان له جماعة يسترشدونه في خوزستان. فأخبرهم بقناعته فاختاروا السيد الحكيم قدّس سرّه و قلدوه، بينما اختار أهل بيته الشيخ آل ياسين قدّس سرّه فقلدوه، و بقيت علاقته بجماعته و بالمرجعين المعظمين و بجماعتهما علي أحسنها مع اطلاعهم علي موقفه.

و من قبل كان السيد الحكيم قدّس سرّه يرشد للمرحوم الميرزا النائيني قدّس سرّه، و أخوه الأكبر منه آية اللّه السيد محمود الحكيم قدّس سرّه يرشد للمرحوم المرجع المعظم الشيخ علي نجل الشيخ باقر الجواهري قدّس سرّه كل منهما حسب قناعته من دون أن يؤثر ذلك علي علاقتهما الحميمة. و نظائر ذلك كثيرة في سلوك أهل الرشد و التقوي.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 145

و معالجاته لمشاكل الحياة و الإنسان بتشذيب و تحوير، بل مسخ و تشويه، لتتناسب مع المفاهيم المعاصرة التي يتبناها مدعو الحضارة هذه الأيام و يحاولون تعميمها. بل قد يصل بهم الأمر إلي إنكار بعض الحقائق الدينية و محاولة تجريد الإسلام منها، بسبب تنافرها مع المفاهيم المعاصرة.

و هم يسيرون في ذلك باتجاهين:

(الأول): تبرير الطروحات المعاصرة، و بيان شرعيتها دينيا، في محاولة للدعوة إليها و تمريرها في المجتمع الإسلامي.

(الثاني): بيان أن الإسلام دين الحضارة و التقدم، و أنه يتماشي مع العصر، بعيدا عن الرجعية و التخلف، بهدف الدعاية للإسلام و التنويه به. و الهدف الثاني و إن كان نبيلا، إلا أنه لا يبرر

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 153

تشويه الحقيقة، و تحريف المفهوم الديني أو مسخه، فضلا عن إنكاره.

و من الظلم للحقيقة و للإسلام الذي هو دين اللّه تعالي الخالد و كلمته الباقية إخضاعه لمسلمات الأوضاع المعاصرة التي تنامت في أحضان مجتمعات كافرة متحللة، و قد أطلق كثير منها كشعارات فارغة براقة أريد بها تلميع الوجه البشع لتلك المجتمعات، من أجل تمرير مخططاتها المشبوهة، و تحقيق أطماعها الظالمة، من دون أن تنزل بجدّية للواقع العملي لتلك المجتمعات التي جنت منها البشرية و من مفاهيمها التي تتبناها و تدعو إليها أفدح الخسائر في مثلها و أخلاقياتها، و أشد المتاعب في تعايشها و سلوكياتها.

و في الحقيقة فالعرض المذكور لقضايا الإسلام- مهما كان الغرض منه- يكشف عن جهل القائمين به بحقيقة القضايا الإسلامية، أو عن الروح الانهزامية التي يحملها أولئك النفر أمام المفاهيم المعاصرة، إما للانبهار بها، أو للتفاعل معها كحقيقة ثابتة لا بد من الاعتراف بها، و الاستسلام لها، أو لدوافع أخر لا يهمنا معرفتها.

و إذا كان في بعض

القضايا الإسلامية بعض الفجوات و السلبيات الملحوظة فذلك إما أن يكون بسبب مألوفية المفاهيم المعاصرة الموجب للتنفر مما يخالفها و إن كان هو الأصلح و الألصق بالواقع، أو بسبب سوء التنفيذ و التطبيق من المسلمين أنفسهم، أو

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 154

من الظالمين الذين حالوا دون تطبيق قضايا الإسلام بأكملها، بما في ذلك ولاية الأئمة المعصومين (صلوات اللّه عليهم) و تسنمهم قيادة الأمة، فكان الإسلام العملي القائم علي أرض الواقع مبتورا غير متكامل، و كان نتيجة ذلك ظهور الفجوات و السلبيات، من دون نقص في قضايا الإسلام و مفاهيمه الشريفة ككل، و لا مسئولية علي الإسلام من ذلك. كما أنه لا يبرر تحوير تلك القضايا و المفاهيم، و لا إنكارها و محاولة التنصل منها، بعد أن كانت حقا حقيقا بالقبول، و من الدين الذي شرعه اللّه تعالي و فرضه، و هو المالك المطلق للدنيا و ما فيها- من إنسان و حيوان و كل شي ء- و العالم بالنظام الأصلح الأكمل.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 155

أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً. وَ وُضِعَ الْكِتٰابُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا الْكِتٰابِ لٰا يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لٰا كَبِيرَةً إِلّٰا أَحْصٰاهٰا وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً وَ لٰا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «1».

فعلي المؤمن أن يكون علي حذر من ذلك بحسن عمله، و طيب مكسبه، و تورعه في أمره، و تحري رضي اللّه تعالي، و مجانبة سخطه. و أن لا يسلس قياده في هذه الدنيا الفانية لشهواته و رغباته و عواطفه و اندفاعاته، و يستجيب لنزعات الشيطان الرجيم و دواعي النفس الأمارة بالسوء غفلة عما يراد به و ذهولا عن المصير المحتوم، فإن صرعة الاسترسال لا تستقال. قال عز من قائل: وَ لَقَدْ ذَرَأْنٰا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لٰا يَفْقَهُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لٰا يُبْصِرُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ آذٰانٌ لٰا يَسْمَعُونَ بِهٰا أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولٰئِكَ هُمُ الْغٰافِلُونَ «2».

و نسأل اللّه سبحانه و تعالي بمنه و كرمه أن يعصمنا في مهاوي الهلكات و يجعلنا من أهل التذكر و الاعتبار، و لا يجعلنا من الغافلين إنه أرحم الراحمين و ولي المؤمنين.

______________________________

(1) سورة الكهف الآية: 47- 49.

(2) سورة الأعراف الآية: 179.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 177

تعالي:

وَ أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ ذٰلِكَ ذِكْريٰ لِلذّٰاكِرِينَ. وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللّٰهَ لٰا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ «2».

و عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:

لو كان علي باب دار أحدكم نهر و اغتسل في كل يوم منه خمس مرات أ كان يبقي في جسده من الدرن شي ء؟ قلت:

لا، قال: فإن الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلّي صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب». و ما عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: «صلاة فريضة خير من عشرين حجة، و حجة خير من بيت مملوء ذهبا يتصدق منه حتّي يفني» «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 3 ص: 16.

(2) سورة هود الآية: 114- 115.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 ص: 26.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 184

و يحزّ في النفس ما نراه اليوم من التسامح و التهاون من كثير من أفراد هذه الأمة في هذه الفريضة العظيمة و الاستخفاف بها ف إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ «1».

و نرجو أن يكون ما ورد من الحث الكثير عليها- في الكتاب المجيد و الأحاديث الشريفة مما تقدم و غيره- رادعا لهم عن ذلك، و محفّزا للاهتمام بهذه الفريضة العظيمة فَإِنَّ الذِّكْريٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.

و يتأكد ذلك في حق المغتربين من المؤمنين في البلاد الكافرة و العلمانية، المنغمسة في المادة، و المغمورة بالضلال، و السائرة في الغفلة. فإن هذه الفريضة العظيمة هي شعارهم الذي يثبت شخصيتهم و يؤكد هويتهم و يشدّهم بأصولهم الأصيلة و دينهم القويم. و يجعلهم نورا في تلك البلاد المظلمة و أعلاما للحق و الهدي في تلك المجتمعات الغافلة. و قد ورد عن النبي صلّي

اللّه عليه و آله و سلّم أن:

«الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارين» «2».

و هي مع ذلك تحفظ لهم صلتهم بربهم، و تنبههم من غفلتهم، و تعصمهم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة و الجريمة في ذلك المجتمع الفاسد. قال اللّه سبحانه و تعالي:

______________________________

(1) سورة البقرة الآية: 156.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 ص: 1190.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 185

وَ أَقِمِ الصَّلٰاةَ إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهيٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ «1». و قد تقدم في الأمر الخامس من التوجيهات و النصائح ما ينفع في المقام، فعليكم بالرجوع له و التدبر فيه. و من اللّه سبحانه و تعالي نستمدّ العون و التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

______________________________

(1) سورة العنكبوت الآية: 45

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 186

صلاتي الظهرين، فاللازم حينئذ الإتيان بالصلوات الخمس بالنية التي تقدمت سابقا موزعة علي ما يناسبها من موقع الشمس من دائرة الأفق. و يظهر ذلك بالتأمل. أما الصوم فلا يشرع أداء، بل يتعين قضاؤه بعد ذلك في الوقت الذي يتميز فيه الليل عن النهار من فصول السنة.

إلا الصبر فإنّه لي و أنا أجزي به، فثواب الصبر مخزون في علم اللّه، و الصبر الصوم» «1».

و قد ورد في الأخبار عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام أن نوم الصائم عبادة، و نفسه و صمته تسبيح، و عمله متقبل، و دعاءه مستجاب، و رائحة فمه عند اللّه أطيب من رائحة المسك، و أن الصائم يرتع في رياض الجنة، و تدعو له الملائكة حتي يفطر، و له فرحتان: فرحة عند الإفطار، و فرحة حين يلقي اللّه تعالي. كما ورد أن الصوم يباعد الشيطان و يسوّد وجهه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 7 ص: 295.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 208

و قد اختار اللّه سبحانه و تعالي لهذه الفريضة الشريفة شهره المبارك شهر رمضان، أفضل الشهور و أكرمها عليه، الذي اختصه لنفسه، و نسبه إليه، فكرّمه و عظّمه، و شرّفه بإنزال كتابه فيه، و اختصه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. و فيه تغل الشياطين، و تغفر السيئات، و تضاعف الحسنات، و تغلق أبواب النيران، و تفتح أبواب الجنان، و دعي فيه المؤمنون إلي ضيافة اللّه تعالي، و جعلوا من أهل كرامته.

و للصوم آداب كثيرة. و في حديث محمد بن عجلان:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ليس الصيام من الطعام و الشراب أن لا يأكل الإنسان و لا يشرب فقط. و لكن إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لسانك و بطنك و فرجك و احفظ يدك و فرجك، و أكثر السكوت إلا من خير و ارفق بخادمك» «1».

و في خبر جراح المدائني عنه عليه السّلام: «فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، و غضوا أبصاركم، و لا تنازعوا،

و لا تحاسدوا، و لا تغتابوا، و لا تماروا، و لا تكذبوا، و لا تباشروا (يعني: تباشروا النساء) و لا تخالفوا، و لا تباغضوا، و لا تسابّوا، و لا تشاتموا، و لا تنابزوا، و لا تجادلوا، و لا تبادوا، و لا تظلموا، و لا تسافهوا، و لا تزاجروا، و لا تغفلوا عن ذكر اللّه و عن الصلاة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 7 ص: 118.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 209

و ألزموا الصمت و السكوت و الحلم و الصبر و الصدق و مجانبة أهل الشر … و كونوا مشرفين علي الآخرة منتظرين لأيامكم منتظرين لما وعدكم اللّه، متزودين للقاء اللّه. و عليكم السكينة و الوقار و الخشوع و الخضوع و ذل العبد الخائف من مولاه راجين خائفين راغبين راهبين … و كلما نقصت منها شيئا مما بنيت [بينت. ظ] لك فقد نقص من صومك بمقدار ذلك … » «1».

و نسأل اللّه سبحانه و تعالي بمنه و كرمه أن يوفقنا و جميع المؤمنين لأداء هذه الفريضة العظيمة علي أكمل وجوهها و أتمها، مع حسن النية و مقبول السعي و مستجاب الدعوة. إنه أرحم الراحمين، و ولي المؤمنين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 7 ص: 119.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 210

أجاب باللسان و خالف بالقلب» «2» … إلي غير ذلك من الروايات الكثيرة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 6 ص: 338.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 ص: 375.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 219

حيث شاءت. و هل حفظ مبدأ التشيع علي طول المدة و شدة المحنة بروحه المتوثبة و دعوته الحية غير العلماء الصحيحين الذين جاهدوا في سبيل اللّه تعالي و نصحوا لعباده و تحملوا الأذي في جنبه، و لم يستجيبوا للظالمين و لا نسقوا معهم و لا اعترفوا بحكمهم، حتي فرضوا دينهم و أنفسهم علي أرض الواقع.

و الحذر ثم الحذر من هذه الحملة الظالمة المشبوهة علي العلماء المتورعين التي هي فرع عن الحملة الشرسة علي التشيع عموما، التي تشهدها بقاع الأرض، فاللازم علي المؤمنين سددهم اللّه تعالي تأكيد العلاقة بالعلماء العاملين المخلصين، و بممثليهم الصالحين المستقيمين، و الالتحام معهم لتيسير أداء وظيفتهم علي أكمل وجوهها و أفضلها. و ليشعر المهرجون المدفوعون بخيبة سعيهم، و يشعر الدافعون لهم بفشل مخططهم عَسَي اللّٰهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللّٰهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا «1».

______________________________

(1) سورة النساء الآية: 84.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 221

منازلهم بمني نادي مناد: لو تعلمون بفناء من حللتم لأيقنتم بالخلف بعد المغفرة» «1».

و في حديث آخر عنه عليه السّلام: «سأله رجل في المسجد الحرام من أعظم الناس وزرا؟ فقال عليه السّلام: من يقف بهذين الموقفين عرفة و المزدلفة، و سعي بين هذين الجبلين، ثم طاف بهذا البيت، و صلي خلف مقام إبراهيم عليه السّلام: ثم قال في نفسه و ظن أن اللّه لم يغفر له، فهو من أعظم الناس وزرا» «2».

و في حديث آخر عنه عليه السّلام: «الحاج و المعتمر وفد اللّه، إن سألوه أعطاهم، و إن دعوه أجابهم، و إن شفعوا شفّعهم، و إن سكتوا ابتدأهم. و يعوّضون بالدرهم ألف درهم» «3».

و في حديث الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: الحاج ثلاثة، فأفضلهم نصيبا رجل غفر له ذنبه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 65.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 66.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 68.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 233

ما تقدم منه و ما تأخر، و وقاه اللّه عذاب القبر. و أما الذي يليه فرجل غفر له ذنبه ما تقدم منه، و يستأنف العمل فيما بقي من عمره. و أما الذي يليه فرجل حفظ في أهله و ماله» «1» … إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة.

و قد ورد في بعض أحاديث أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) أن من المقاصد الشريفة للحج و فوائده المطلوبة التعرف علي آثار رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أخباره، ليذكر و لا ينسي. كما أن في جملة من أحاديثهم عليهم السّلام التأكيد علي التأسي بالنبي صلّي اللّه عليه و آله و

سلّم في بعض منازله و أفعاله.

فعلي الحجاج أن يتعمّدوا ذلك ما وجدوا له سبيلا، فيزوروا المواقع التي حلّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيها، أو مرّ بها، و يتذكروا مقاماته و مواقفه فيها، و يتمثلوها في نفوسهم، و ينشدّوا لها و- له صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بقلوبهم، تأكيدا لحبهم له، و تثبيتا لعلاقتهم معه، و تقوية لروابطهم به، فهو الرءوف بالمؤمنين، الرحيم بهم، الشافع لهم المشفع فيهم. و جزاه اللّه تعالي خير ما جزي نبيا عن أمته، و بلغه منا تحية و سلاما.

كما أن من تمام الحج و كماله زيارته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الفوز بالنزول في فنائه و السلام عليه، رعاية لعظيم حقه، و تجديدا لما في أعناق أمته من عهده.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 70.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 234

و في حديث الأسلمي عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: من أتي مكة حاجا و لم يزرني إلي المدينة جفاني، و من جفاني جفوته يوم القيامة. و من جاءني زائرا وجبت له شفاعتي، و من وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة» «1».

و يجري أهل بيته (صلوات اللّه عليهم) مجراه في جميع ذلك لأنهم منه، و هو منهم، خلقوا من نوره، و نطقوا عنه. فمن أحبهم فقد أحبه، و من أكرمهم فقد أكرمه. فلا ينبغي للحاج أن يفوته التعرف علي آثارهم، و زيارة مشاهدهم، و تذكر مواقفهم، و حفظ حق رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيهم. ففي حديث إسماعيل بن مهران عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: «إذا حج أحدكم

فليختم بزيارتنا، لأن ذلك من تمام الحج» «2».

و ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن من جملة فوائد الحج التفقه في الدين و نشر المعارف الدينية في أنحاء المعمورة. و هو أمر حقيق بالاهتمام في هذه الأيام، و لا سيما في حقكم- أيها المغتربون- بعد أن تفرقتم في فجاج الأرض و أطرافها، في مجاميع قليلة، بعيدة عن مراكز الثقافة الدينية، محاطة بالأفكار الكافرة و المجتمعات المتحللة.

______________________________

(1) علل الشرائع ج: 2 ص: 460، و اللفظ له. وسائل الشيعة ج: 10 ص: 261.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 ص: 254.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 235

و لذا تتأكد في حقكم الحاجة للتحصن من آثار ذلك و مخاطره بالتثقيف بالأفكار الأصيلة المستمدة من تعاليم أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، و التي دافع عنها و حافظ عليها طول هذه المدة علماؤنا الأعلام، الذين جعلهم أئمتنا عليهم السّلام المرجع للمؤمنين في محنتهم الطويلة، حيث تستطيعون في هذا الموسم الشريف اللقاء مع رجال الحوزة المخلصين و نحوهم ممن يحمل الثقافة الدينية الأصيلة و يفد إلي الديار المقدسة ثم التزود منهم بالمعلومات الصحيحة و الثقافة الدينية التي يحملونها، و مدارستها معهم.

و بذلك تستطيعون حمل الثقافة الدينية الأصيلة، و الرجوع بها إلي مواقعكم من المعمورة، ثم نشرها بين القاطنين هناك، و تحصينهم بها. و هكذا يكون هذا التجمع المبارك موسما لتداول الأفكار الحقة و نشرها. و سبب خير و رحمة للمؤمنين.

و إياكم و ترك الحج تسامحا بعد اجتماع شرائط وجوبه، لأن ذلك من الكبائر العظام و المعاصي الموبقة، فقد قرنه اللّه تعالي بالكفر إذ يقول: وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ «1».

______________________________

(1) سورة

آل عمران الآية: 97.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 236

و في الحديث الشريف: «إذا قدر الرجل علي الحج فلم يحج فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام» «1».

و ورد أيضا: «من سوّف الحج حتي يموت بعثه اللّه يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا» «2».

و في وصية أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تتركوا حج بيت ربكم فتهلكوا» «3».

و قال الإمام الصادق عليه السّلام: «أما إن الناس لو تركوا حج هذا البيت لنزل بهم العذاب و ما نوظروا» «4». و قد تقدم منا في الأمر التاسع عشر من التوجيهات و النصائح ما ينفع في المقام.

و هنا أمر ينبغي لمن يريد الحج رعايته باهتمام و تركيز، و هو تعلم أحكام الحج و التفقه فيها (أولا): لأن ذلك لازم في جميع الفرائض من أجل إحراز الخروج عن عهدتها، و براءة الذمة منها.

(و ثانيا): لأن الخطأ فيه قد يوجب مشاكل معقدة لا يسهل حلها و الخروج منها.

و التثقيف المذكور يتم بأمرين:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 18.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 21.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 15.

(4) وسائل الشيعة ج: 8 ص: 14.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 237

(الأول): الرجوع لكتب المناسك في الحج و العمرة، كل حسب تقليده، و دراسة أحكام الحج فيها قبل الذهاب له، ليكون المكلف علي معرفة بها و بصيرة منها مسبقا، لأن متاعب الحج و مشاغله و ضيق وقت الحاج تمنعه غالبا من التعرف علي أحكام الحج في أثناء السفر له و استيعابها.

(الثاني): الارتباط عند الذهاب للحج بالمرشدين، الذين لهم خبرة تامة بالحج، و لهم ورع و تقوي تمنعهم من التساهل و التسرع في تعليمه، ممن يرتبطون بقوافل الحجاج أو يذهبون بانفرادهم. فإن الإنسان مهما

كان عارفا بأحكام الحج لا يستغني عن المرشد عند العمل بها و تطبيقها. و مع ذلك قد لا يستغني عن الرجوع للبعثات الدينية التي تأخذ علي عاتقها إرشاد الحجاج و حل مشاكلهم.

و حيث كان الحاج لا يستغني عن كتب المناسك، كما ذكرنا، و هي متكفلة بالمهم من أحكام الحج فنحن هنا في غني عن ذكر أحكامه إلا بعض المسائل القليلة التي يشيع ابتلاء المغتربين بها، و لا تطرق غالبا في الكتب المذكورة و نحوها. و اللّه سبحانه هو المسدد.

و نسأله بفضله و كرمه أن يوفقنا و إياكم لطاعته، و يرزقنا جميعا حج بيته الحرام، مع قبول الأعمال و استجابة الدعاء، و صلاح الأحوال. إنه أرحم الراحمين و ولي المؤمنين، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 238

و لا تسمنوا تسمن الخنازير للذبح» «1».

و في حديث أبي بصير عنه عليه السّلام: «قال لي: يا أبا محمد إن البطن ليطغي من أكله. و أقرب ما يكون العبد من اللّه إذا خف بطنه، و أبغض ما يكون العبد من اللّه إذا امتلأ بطنه» «2».

و لا نريد بذلك أن يمتنع الإنسان عن الطيبات و عن التنوق في الطعام و تجويده، فإن اللّه تعالي خلق الطيبات في المطعم و المشرب و غيرهما من أجل أن ينعم بها الإنسان و ينتفع بها. بل كل ما نريده أن لا يكثر من الطعام و الشراب و يمتلئ منها، لأن له مضاره السابقة، و أن لا يشتد اهتمامه بهما، فإن ذلك من الصفات الحيوانية الذميمة، حتي قيل: من كان همه بطنه فقيمته ما يخرج منها.

كما أن اللّه جلت آلاؤه قد حرم علي الإنسان الطعام و الشراب ببعض أنواعه أو في بعض حالاته، و لم يحرم ما حرم عبثا و لا رغبة منه فيما حرم، و لا من أجل أن يؤذي الإنسان

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 16 ص: 406.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 ص: 405.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 246

بحرمانه مما يحب، بل من أجل خير الإنسان و صلاحه ففي حديث المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السّلام حين سأله عن علة تحريم بعض المحرمات: «قال: إن اللّه تبارك و تعالي لم يحرم ذلك علي عباده و أحل لهم ما سواه من رغبة منه في ما حرم عليهم، و لا زهد في ما أحل لهم، و لكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحله لهم، و أباحه تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم، و علم ما يضرهم

فنهاهم عنه و حرم عليهم … » «1».

فعلي المؤمن- و خصوصا المغترب الذي يتعرض في محيطه لكثير من المحرمات- أن يتحرج من الحرام بجميع أنواعه و في جميع حالاته و يتحفظ من الوقوع فيه، وقوفا عند نهي اللّه تعالي، و التزاما بحدوده. و لما في ذلك من المضار الدينية و البدنية و النفسية. و له في الحلال سعة و متعة و كفاية.

و قد ورد أن من أدخله بطنه النار فأبعده اللّه «2». و أن من صفات المؤمن أن يعف بطنه و فرجه.

و اللّه سبحانه و تعالي ولي التوفيق و التسديد و هو أرحم الراحمين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 16 ص: 310.

(2) بحار الأنوار ج: 40 ص: 340.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 247

صالح و لكنه قد ترك التجارة. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: عمل الشيطان- ثلاثا- أما علم أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اشتري عيرا أتت من الشام فاستفضل فيها ما قضي دينه و قسم في قرابته؟! يقول اللّه عز و جل رِجٰالٌ لٰا تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ … إلي آخر الآية يقول القصاص: إن القوم لم يكونوا يتجرون. كذبوا، و لكنهم لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها. و هم أفضل ممن حضر الصلاة و لم يتجر» «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 16- 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 6.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 270

و في حديث محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال:

«إني لأبغض الرجل أو أبغض للرجل أن يكون كسلانا عن أمر دنياه، و من كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل» «1».

و في حديث أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:

«إن اللّه عز و جل يبغض كثرة النوم و كثرة الفراغ» «2». و الأخبار في ذلك و نحوه كثيرة جدا لا يسع المقام استقصاءها.

لكن يجب التحفظ من وجوه الحرام و الحذر منها، فإن المؤمن ينبغي له أن يستعين بالدنيا علي الآخرة، فإنها نعم العون عليها، كما سبق. و لا ينبغي له أن يجعل الدنيا سببا لخسران الآخرة.

و في حديث أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر عليه السّلام:

«قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتّي تستكمل

رزقها، فاتّقوا اللّه و أجملوا في الطلب، و لا يحملنّكم استبطاء شي ء من الرزق أن تطلبوه بمعصية اللّه، فإن اللّه تبارك و تعالي قسم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسمها حراما، فمن اتقي اللّه و صبر أتاه اللّه برزقه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 37.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 36.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 271

من حله، و من هتك حجاب الستر و عجّل، فأخذه من غير حلّه، قصّ به من رزقه الحلال، و حوسب عليه يوم القيامة» «1».

و عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: إن أخوف ما أخاف علي أمتي هذه المكاسب الحرام و الشهوة الخفية و الربا» «2».

و عنه عليه السّلام أنه قال: «ليس بولّي لي من أكل مال مؤمن حراما» «3».

و عنه عليه السّلام أنه قال: «كسب الحرام يبين في الذرية» «4».

و في حديث داود الصرمي: «قال أبو الحسن عليه السّلام: يا داود إن الحرام لا ينمي، و إن نمي لم يبارك له فيه، و ما أنفقه لم يؤجر عليه، و ما خلفه كان زاده إلي النار» «5»، و الأخبار في ذلك كثيرة لا تحصي.

فاللازم التحفظ من الحرام خصوصا في المجتمعات المتحللة المنغمسة في الحرام كالمجتمعات الكافرة التي ابتلي بها المغتربون،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 27.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 52.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 53.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 53.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 53.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 272

حيث يحتاج تجنب الحرام إلي يقظة و حذر دائمين و جهد و جهاد شديدين.

و لا يتيسر التحفظ من الحرام- في المكاسب و غيرها- إلا بالتفقه في

الدين و تعلم أحكام الشرع المبين، فعلي المؤمنين أعزّهم اللّه تعالي شدّة الاهتمام بذلك، و عدم التساهل و التسامح فيه، لتحفظ حدود اللّه تعالي و تقام أحكامه، و تطيب المكاسب و تهنأ، فعن الأصبغ بن نباتة أنّه قال: «سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول علي المنبر: يا معشر التجار الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر. و اللّه للربا في هذه الامّة أخفي من دبيب النمل علي الصفا. شوبوا أيمانكم بالصدق، التاجر فاجر، و الفاجر في النار، إلا من أخذ الحق و أعطي الحق» «1».

و عنه عليه السّلام أنه قال: «من اتّجر بغير علم ارتطم في الربا ثمّ ارتطم» «2».

و من المؤسف أن نري اليوم كثيرا من المتديّنين يوقع المعاملة ثمّ يسأل عن حكمها، و إذا به قد تورط في مشكلة شرعية يصعب حلّها و التخلّص من تبعتها، و كان بوسعه أن يتجنب ذلك بالسؤال قبل العمل و التفقه قبل التورّط. و نسأله سبحانه التوفيق و التسديد و هو حسبنا و نعم الوكيل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 282.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 ص: 283.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 273

ذات مالية، نظير العملة الورقية و الطوابع البريدية. فإنه قد يكون لذلك أهم الأثر في الجواب.

من مشتريات الزبائن اللاحقين (أو لاحقي اللاحقين)، و البعض الآخر من الشركات تمنح مبلغا مقطوعا عن كل شراء من الزبون اللاحق أو مجموعة من الزبائن اللاحقين (أو لاحقي اللاحقين)، و قد يكون للعمولات حدا أعلي في فترة معينة (كأن لا تتجاوز مقدارا معينا في اليوم الواحد أو

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 298

الشهر الواحد من مجموع مشتريات الزبائن)، و الزبون يرضي بذلك.

و تشترط بعض الشركات بدفع كامل المبلغ عند الشراء، و تكتفي بعضها بمبلغ جزئي كدفعة مقدمة و تحجز البضاعة لتقطع الباقي من العمولات، و عند ما تستوفي المبلغ المتبقي ترسل له البضاعة، أو تقسط الشركة هذا المبلغ (علي فترة سنة مثلا) قبل أن ترسل له البضاعة و المشتري يرضي بذلك.

كذلك تشترط بعض الشركات علي الزبون- حتي تستحق عمولة- حدا أدني من الشراء في كل فترة معينة (كأن يكون كل شهر)، و لا تشترط شركات أخري بذلك، و إنما تكتفي بشراء منتجها مرة واحدة ثم تمنح له العمولات علي مشتريات الزبائن اللاحقين، و لكن المجال مفتوح أمام الزبون للشراء لأي عدد من المرات و هو بذلك يستحق عمولات أكثر فيما إذا سوق المنتج و جلب زبائن آخرين للشركة سواء فعل ذلك مباشرة أو من خلال زبائنه اللاحقين كما سبق، و يرضي الطرفان علي ذلك.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 299

باختصار هذه المعاملة هناك بائع (شركة أو وكيلها) و مشتري (زبون)، و هناك بضاعة مشروعة (مجوهرات، عملة ذهبية، مواد تجميلية، أو مواد صحية، أو ما شابه ذلك) تباع و تشتري، و هناك عمولات تعطيها الشركة (أو وكيلها) وفق شروط و ضوابط معينة، لشبكة من الزبائن المرتبط الواحد بالآخر و يرضي بذلك الطرفان البائع و المشتري.

هل هذا

البيع و الشراء و عملية اكتساب العمولات علي النمط المذكور جائز شرعا؟

مستقبلا، فما حكم شراء البيوت بهذه الطريقة؟

يبدأ صباح اليوم التالي في استراليا، و هكذا ما عدا أيام العطل الرسمية.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 305

و هناك كثير من المكاتب في كثير من الدول تقوم بهذه المهمة بالوكالة و بدلا عن البائع و المشتري علي نطاق ضيق، مقابل عمولة معينة من العميل، علما بأن الأسعار المعروضة للبيع أو الشراء هي نفس الأسعار السائدة في البورصات العالمية، و أن تلك المكاتب تأخذ الأسعار عن طريق شركة (رويترز) أو غيرها من شركات الأخبار الدولية. و تكون الأسعار صحيحة و دقيقة. و هذه الشركات هي تبيع و تشتري العملات و المعادن و المواد الغذائية و النفط و مختلف المواد، و منها ما تتخصص في شي ء معين. و لكنها علي علم بأن العميل سوف لن يستلم البضاعة. بل هو فقط يدفع الفرق، سواء أ كان ذلك خسارة أم ربحا.

مع العلم بأن معظم هذه المكاتب تعمل وكيلا لمكاتب أكبر متصلة مباشرة بالبائع أو المشتري في البورصات، و هي علي استعداد أن تسدد البضاعة كاملة عند دفع تمام المال، و لكن الشركة علي علم بأن العميل لم و لن يطلب البضاعة، لأن أساس العملية هو أن العميل يدفع (5%) أو أقل أو أكثر قليلا من القيامة الإجمالية للعملية

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 306

كلها، و العميل يعمل بذلك لأجل المضاربة علي أساس أن يدفع الخسارة، و يأخذ الربح غالبا.

و السؤال: هل يمكن أن نفتح مكتبا لذلك و نكون وكلاء لمكاتب عالمية أكبر؟ و هل يمكن للعميل أن يتعامل علي أساس المضاربة، و هو يعلم علم اليقين بأنه ليس في استطاعته أن يدفع تمام المبلغ و يستلم البضاعة، أو يدفع هذه العملة كاملا و يستلم العملة الأخري كاملا، و

إذا اشتري أو باع بإيداع ضمان (5%)، هل الربح حلال أو حرام؟

خيرا، فما هو الضابط الشرعي لأنواع الحوارات، لا سيما مع الوقيعة المتعمدة في مذهب الحق و أهله؟

الغير و إعماله من أجل استحصال المعلومات منه حرم التصرف المذكور فيه بغير إذنه إذا كان محترم المال.

يقوم بها فلا بأس به. إلا أن يختلط الأمر و يكون في تكثير المستمعين تشجيع للقائل و ترويج لحديثه، فيحرم بالعنوان الثانوي.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 340

لكم و لجميع المؤمنين، و العصمة من الضلال بعد الهدي، و الزيغ بعد الاستقامة، و نعوذ به من مضلات الفتن، و من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا. قال عز من قائل: وَ عَلَي اللّٰهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْهٰا جٰائِرٌ وَ لَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ «2».

و هو حسبنا و نعم الوكيل.

______________________________

(1) سورة المائدة الآية: 2.

(2) سورة النحل الآية: 9.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 342

أفضل من رجل عزب يقوم ليله و يصوم نهاره» «5».

و قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «رذّال موتاكم العزاب» «6». و النصوص في ذلك و نحوه لا تحصي كثرة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 22.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 14.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 6.

(5) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 7.

(6) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 7.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 368

و قد تضمن جملة منها النهي عن ترك الزواج خوف الفقر، و أنّ من فعل ذلك فقد ساء ظنه باللّه تعالي «1». بل ورد فيها:

أن الزواج من أسباب الرزق، و أن الرزق مع النساء و العيال «2» … إلي غير ذلك.

و قبل ذلك كله وعد اللّه تعالي به في كتابه المجيد، حيث يقول: وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ «3».

و يتأكد ذلك في حق المغتربين، من الرجال و النساء، حيث يعيشون- غالبا- في مجتمعات التحلل و التبذل، و انتشار المغريات للحرام بوجوهها المختلفة، و عرضها الفاضح، من دون حياء و لا حاجز من دين أو خلق، بل مع ألفة ذلك ألفة تنسي الإنسان دواعي العفة و تميت المثل في نفسه.

فإذا لم يتحصن بزواج يشبع غريزته و يحفظ له عفته تعرض للسقوط في مهاوي الرذيلة و الانحدار في حضيض التحلل انحدارا قد لا يتسني التراجع عنه.

و علي كل حال، علي المؤمنين وفقهم اللّه تعالي الاهتمام بتسهيل أمر الزواج، بتخفيف قيوده، و تقليل نفقاته، و التعاون

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 ص: 24.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 14 ص: 25.

(3)

سورة النور الآية: 32.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 369

عليه، إقامة للسنة و دفعا للفساد و الفتنة. و في حديث السكوني عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: أفضل نساء أمتي أصبحن وجها و أقلهن مهرا» «1».

و في حديث خالد بن نجيح عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:

«فأما شؤم المرأة فكثرة مهرها و عقوق زوجها … » «2».

و في حديث السكوني عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتي يجمع اللّه بينهما» «3» … إلي غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.

و من عجز عن الزواج فعليه أن يدرع التقوي و الصبر، و يبعد نفسه عن مواقع المعصية و الفتنة، و يحذر من كيد الشيطان و غروره، و يكبح جماح النفس الأمّارة بالسوء، و يتحلي بالعفة و الفضيلة، و يربأ بنفسه عن السقوط في مهاوي الخسة و الرذيلة، متمسكا بوصية اللّه تعالي له حيث يقول: وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ نِكٰاحاً حَتّٰي يُغْنِيَهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 16.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 ص: 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 16- 17.

(4) سورة النور الآية: 33.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 370

و قد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام: أنه يستحب الاستعانة علي العزوبية بالصيام و توفير الشعر «1»، و أن بهما تخف حدة الحاجة للنكاح.

و نسأله سبحانه أن يعين شباب المؤمنين في بليتهم، و يعصمهم في محنتهم و يزيدهم إيمانا و تسليما وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لٰا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي

اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً «2».

و هناك بعض الوصايا في أمر الزواج تعم جميع المؤمنين، إلا أنه يحسن تنبيه المغتربين عليها بالخصوص..

(الأولي): أكد الإسلام علي لسان نبيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة من آله عليهم السّلام علي نبذ فوارق النسب في النكاح، و أن المؤمن كفؤ المؤمنة. و علي أنه ينبغي الاهتمام بالدين و الخلق و العفة و الأمانة.

و قد ورد عنهم (صلوات اللّه عليهم) في نصوص كثيرة: «إذا جاءكم من ترضون خلقه و دينه فزوجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير» «3».

فلا ينبغي ردّ الخاطب المؤمن إذا كان متدينا، خصوصا إذا كان ذا يسار، بحيث ينهض بمعاشه و معاش عياله، حيث لا عذر

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 ص: 178.

(2) سورة الطلاق الآية: 2- 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 51.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 371

بعد في ردّه، و عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «الكفو أن يكون عفيفا و عنده يسار» «1».

كما يلزم الحذر من تزويج سيئ الخلق و من ليس له التزام ديني، فقد ورد عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام النهي عن ذلك، و لا سيما شارب الخمر، فقد استفاضت الأحاديث في النهي عن تزويجه.

و عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «النكاح رق، فإذا أنكح أحدكم وليدة فقد أرقها. فلينظر أحدكم لمن يرق كريمته» «2».

و يتأكد ذلك في بلاد الغربة حيث يبتني وضع المجتمع علي الانفراط و التحلل، و يتسني لكل أحد أن ينال شهوته من أقصر طرقها، فإذا لم يكن

للزوج قوة من الدين و الخلق و العفة و الشعور بالمسئولية تتعرض الزوجة لوضع مأساوي، حيث ترتبط برباط الزوجية المانع لها من التحكم في مصيرها من دون أن يحفظ لها زوجها حقوقها، و يرعي لها شعورها، فهي أسيرة بيد من لا يحفظ لها حقا و لا يرعي لها حرمة.

(الثانية): أكدت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام- و منها ما تقدم- علي الزواج المبكر للرجل، كما أكدت

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 51.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 52.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 372

أيضا علي ذلك في حق المرأة، فعن الإمام الرضا عليه السّلام: «قال: نزل جبرائيل علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا محمد ربك يقرؤك السلام، و يقول: إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمر علي الشجر إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس و نثرته الرياح، و كذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهن دواء إلا البعولة، و إلا لم يؤمن عليهن الفساد، لأنهن بشر. قال: فقام إليه رجل، فقال: يا رسول اللّه فمن نزوج؟ فقال: الأكفاء. فقال: و من الأكفاء؟ فقال:

المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، المؤمنون بعضهم أكفاء بعض» «1».

و عن الإمام الصادق عليه السّلام: «قال: من سعادة المرء أن لا تطمث ابنته في بيته» «2» … إلي غير ذلك.

و من الطبيعي أن يتأكد ذلك في حق المغتربين، الذين يعيشون في مجتمعات متحللة، يعرض فيها الجنس علنا بصورة مفضوحة، و بمختلف طرق الإغراء و التشجيع، من دون حاجز من دين أو خلق أو عرف. و الغريزة الجنسية للإنسان تبدأ في الظهور بصورة فاعلة في سن المراهقة و

تشتد صاعدة للأوج عند البلوغ، و هو بعد لم يستحكم في نفسه رادع الدين و الخلق عن إشباع هذه الغريزة بالطرق غير الشرعية الميسورة بل المعروضة في

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 39.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 39.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 373

تلك المجتمعات، و ذلك يجعله معرضا للسقوط في حضيض الرذيلة سقوطا قد لا يتيسر انتشاله منه بعد مألوفيته له و انسجامه معه.

و لو فرض أنه تحصن من الانزلاق في الحرام بما يملكه من حواجز الدين و الخلق و آثار العرف الذي قام في بلاده فلا بد أن يتعرض لمعاناة قاسية و صراع في نفسه مرير قد ينغص عليه عيشه أو يربك عليه وضعه، أو يجره لمضاعفات و سلبيات معقدة.

و هذا بخلاف ما إذا تحصن عند ظهور غريزة الجنس في نفسه بزواج يشبع هذه الغريزة من الطريق المشروع، مع راحة ضمير، إذ قد تحمله لذة ذلك علي الانسجام معه و التشبث به، و العزوف عن الطرق المحرمة و النفرة لها، بل التقزز منها، حيث يتيسر له النظر لها علي حقيقتها و التعرف علي سلبياتها، من دون أن يعميه الجوع الجنسي، و يغافله صوت الغريزة الملح، و اندفاعها الجامح. و اللّه سبحانه و تعالي هو المعين العاصم.

(الثالثة): إذا كانت الدوافع الأولية للزواج التلذذ الجنسي و إشباع الغريزة، فإن الغرض الأهم شرعيا و إنسانيا من بناء بيت الزوجية تكوين العائلة و نظم أمرها، و إحكام ألفتها، و تقوية روابط المودة بينها، و إسعاد أفرادها من أجل حفظ النوع الإنساني و تنميته، و التعاون بين أفراده لخيرهم و صلاحهم.

فاللازم علي الزوجين الاهتمام بذلك و تحمل المسئولية فيه، و الحذر من أن يكون الزواج مفتاحا للنزاع

و الشقاق و محاولة

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 374

كل من الزوجين استغلال الآخر و هضم حقه و إيذاءه فإن ذلك من أعظم المحرمات.

و عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل اللّه صلاتها، و لا حسنة من عملها حتي تعينه و ترضيه، و إن صامت الدهر و قامت و أعتقت الرقاب و أنفقت الأموال في سبيل اللّه، و كانت أول من ترد النار، ثم قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: و علي الرجل مثل ذلك الوزر و العذاب إذا كان لها مؤذيا ظالما … » «1». و الأحاديث في ذلك كثيرة جدا.

بل علي كل منهما أن يؤدي وظيفته من موقعه الذي جعله اللّه تعالي له، و لا يتجاوزه، و حيث جعل اللّه سبحانه و تعالي القيمومة للزوج، فالمنتظر منه القيام بما يناسب ذلك من مقتضيات الحكمة و الحفاظ علي كيان العائلة و ذلك بسعة الصدر، و محاولة تخفيف الأزمات، و استيعاب المشاكل و التروي في حلها، و الصبر علي الأذي، و التسامح عن الأخطاء، و غفران الزلل، و تجنب الغضب و الزجر و اللجاجة و الحرص و نحوها من وسائل الشيطان

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 116.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 375

الرجيم، مستعينا باللّه تعالي و مستمدا منه التوفيق و التسديد.

كما ينبغي للمرأة أن تعرف موقعها و تتحمل مسئوليتها، و لا تنسي أن جهادها الذي أراده اللّه سبحانه منها هو حسن التبعل، و محاولة إرضاء الزوج، و التجاوب معه، و الصبر علي أذاه، فإنه أعظم حقا عليها من كل أحد، حتي ورد عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و

سلّم أنه قال: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» «1».

و ما جعل اللّه عز و جل كلا من الزوجين في موقعه و أدبه بأدبه إلا حفاظا علي كيان العائلة و تماسكها و محاولة لإسعاد أفرادها و صلاحهم. و لهم في المجتمعات الغربية أعظم العبر، حيث أدي خروجهم عن ذلك إلي خراب بيت الزوجية و تفكك الأسرة و انفراطها، و تحطيم كيان العائلة و تشتتها، بل القضاء عليها، و شعور الأفراد بالضياع و فقد الهدف، و كان نتيجة ذلك توقف النمو السكاني في تلك البلاد، بل تراجعه. و السعيد من اتعظ بغيره و اعتبر بالعبر المحيطة به.

و اللّه سبحانه و تعالي من وراء القصد، و هو يهدي السبيل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 115.

مرشد المغترب، توجيهات و فتاوي، ص: 376

منهما أو من وليهما أو من وكيلهما، و لو بأن يوكل أحدهما أو كلاهما الحاكم فيقوم بإنشاء العقد بدلا عنهما أو عن أحدهما.

3- في حالة عدم صحة العقد شرعا فإذا أقدم الزوجان علي الاستمتاع و ممارسة العملية الجنسية عالمين بالبطلان كان ذلك منهما محرما، و كانت العملية الجنسية زني، و الأولاد المترتبين عليها أولاد زني بالإضافة للعالم بالبطلان، فلا يرثون منه. و إن أقدما علي ذلك جاهلين بالبطلان فالأولاد أولاد شبهة يرثون من الجاهل بالبطلان. و إن اختلفا في ذلك فكان أحدهما عالما بالبطلان و الآخر جاهلا به فالأولاد بالإضافة إلي العالم أولاد زني و بالإضافة إلي الجاهل أولاد شبهة يرثون منه. و أظهر من ذلك ما إذا كان أحد الزوجين يري في دينه صحة العقد، كما لو كانت الزوجة مسيحية تري في دينها صحة الزواج في الكنيسة، فإن الأولاد بالإضافة إليها أولاد نكاح حتي لو كانت تعتقد عدم صحة الزواج المذكور في حكم الإسلام، لأن لكل قوم نكاحا.